الجمعة 2023/09/15

آخر تحديث: 21:12 (بيروت)

عندما تصبح الإبنة صديقة لوالدها المعنِّف

الجمعة 2023/09/15
عندما تصبح الإبنة صديقة لوالدها المعنِّف
"حكاية الجَدّة" للفنانة اللبنانية هيبت بلعة
increase حجم الخط decrease
لم تكن صديقة أمي من المناصرات يوماً لحقوق المرأة، وهي التي كانت تبحث دائماً عن الفتاة المهذبة لمرافقة بناتها، حسب معايير تربيتها الذكورية، أي الفتاة المطيعة التي لا تجرؤ على الخروج عن صمتها. كانت رباب مثالاً للمرأة التي تتفانى من أجل كسب ثقة الرجل الشرقي والمتحكّم بقرارات سيّدة منزله، الرجل الذي يعايرها بالوقت الذي تمضيه بعيداً من سقف أوامره. أصرّت رباب على قناعتها بأن التربية الصالحة تتضمّن تلك القواعد الصارمة. فهي لم تكن من الداعيات الى استقلالية بناتها عن أزواجهن، ولم تكن منصفة مع النساء المتحررات من قيود مجتمعهن.

كانت صديقة والدتي ظالمة، رغم أن والدتي المقربة منها عانت أضرار هذه البيئة المتخاذلة أمام مآسي نسائها. أمي رفضت الامتثال لقرار المحكمة الجعفرية بحرمانها من طفليها، كانت لرباب صديقة واجهت بالدموع والصراخ واقعاً مذلاً، تخلّت عن زواج غير مستقر ورجل سيطر على عقله مرض الانفصام حتى أصبحت العِشرة بينهما جحيماً يومياً تعيشه بالإكراه. وقفت أمي أمام عائلة طليقها تطالب بصغيريها، شجّعها كثيرون على الاستسلام. ففي رأيهم، هي امرأة عشرينية وجميلة، باستطاعتها أن تزيل عبء المسؤولية عنها لتترك طفلين من رحمها لمصير الميتم وتطلق لنفسها عنان الارتباط مرة أخرى.

كانت رباب تحمي جهل مجتمعها وحقده على النساء، وتناست أنها امرأة أيضاً، وعليها أن تحمي نفسها أولاً من خطر استبعادها والتطاول عليها. لم تكن سوى تلك الراضية والمبرِّرة لأي جريمة يرتكبها الرجل بحجة العرض والشرف. فالعرض عند صديقة والدتي لا يصونه سوى رجل شرقي ملتوي المفاهيم والطّباع. كانت تفضل السكوت أمام معاملة زوجها السيئة، مُفترضةً أنها مع الوقت وبالمسايرة تستطيع أن "تعالجه" من سطحيته وشكوكه وعصبيته. عاشت معه على المُرّة دون الحلوة، ابتلعت سموم طباعه حتى ظهرت في جسدها، فباتت تداوي مرَضها الجلدي بالصبر وانتظار الرحمة من رجل استدرجها لقهرها مدركاً تماماً ما يفعله بزوجته. لجأت الى العديد من الأطباء، وداوت الأكزيما بتجارب طبية تعفيها من التخلص من مُسبّب هذا الألم والتشوّه، فالنكران هو الذي يصنع العجائب في مجتمعنا. مجتمعنا الذي يتوارى خلف جرائمه ليخفيها بقصص حبكتها ذكورية ومموّلها هو هذا الرجل، زوج صديقة والدتي.

يقولون أن رباب خرجت من منزلها قبل فوات الأوان، أي قبل مقتلها بقليل. استطاعت ابنتها إنقاذها من تحت قدَمي والدها الذي استهان بمقاومة زوجته، فعدّل مزاجه بتعنيف ما تبقى من معاني الرحمة لدى رباب. فرّت من قاتلها وهو نجا من العقوبة، فأي قصاص سيطاوله وهو الواثق بأن زوجته المتأذية من عذابه ستتخطّى فعله بالصلح والتسامح كما فعلت بناته؟

أتساءل، أي مجتمع هذا الذي لا تستطيع فيه الابنة أن تعتني بأمها وتنفي والدها خارج مشاعرها وحياتها؟ وأي مجتمع هذا يهوّل على بناته ويبني لهن فكراً منمّطاً يلطّف صورة الأب المجرم؟ أي مجتمع هذا يمرّسنا على الخوف الدائم من التمرد على العائلة التي تدافع عن مُعنّف أمهاتنا؟ أي مجتمع هذا الذي يمنعنا من خوض معركة القرابة قبل أي معارك أخرى؟ وأي مجتمع هذا الذي يحرّض النساء على بعضهن البعض حتى أصبحت الابنة مدافعة عن أبيها الذي حاول إنهاء حياة أمها؟

لطالما حاوَلت أمي أن تقرّبني من عائلة والدي. أرعبها انقطاع هذا التواصل مع أقربائي. ورثت الكثير عن أمي، إلا أني حاولت جاهدة ألا أرث عنها صفة التسامح مع من كان سبباً في عذاب هذه المرأة ووقوفها في المحاكم لكي تُقنع القاضي وعائلة طليقها بأن لها الحق في حضانة صبيّها الوحيد في منزل والده المريض نفسياً. كيف أسامح مَن حرمني النوم في سرير مقابل لسرير أخي؟ كيف لي أن أنسى بكاء والدتي وانهيارها بعد عودتها من المحكمة مهزومة ومن دون أخي الذي كنت في انتظار استقباله؟

أنا المرأة التي لن تسامح هذا الماضي، ولو غفرت والدتي. أنا هي المرأة التي احتفظت بتجربة والدتها لتأخذ ما لها بقوة تفوق صيتهم الاجتماعي الحسن. كنت يوماً تلك الفتاة الصغيرة التي تخلت والدتها عن نفقة أولادها وعن قابليتها للزواج مرة أخرى، فقط لتنقذ أولادها من العيش في الميتم. لم تحدّثني أمي عن انفصالها. تحفّظت، كي تجنّبني الكره، ولأنها تعلم بأن فتاتها لم تنسَ وحدة أخيها برفقة والده المصاب بالانفصام، وجدّته التي بالكاد استطاعت العناية بإبنها المُدمن على الأدوية. تكتّمت أمي على مجتمع كامل لم يساندها في استرجاع أخي، صمتت أمام نظرته المتعالية إلى هذه المطلّقة الشابة التي خرجت من منزل زوجها مرعوبة من أفعاله اللا-إرادية، فلم يرافقها أحد، إلا أن أخي اعترض طريقها ليقول لها: "خايف ضلّ مع بابا". هل يعلم هذا المجتمع بأنه كرّس انحلاله الأخلاقي والإنساني حين وضع أمي التي كانت ترتعش أمام ولدها المتروك بعيداً من حبّها؟

عندما مات أخي، كانت عائلة والدي حاضرة وخافت أمّي أن يأخذوا منها ولدها للمرة الثانية. خافت من خسارة حضانة صبيّها مجدّداً، حتى بعد وفاته. كانت أمي تكرّر عبارته: "خايف ضل مع بابا"، فخرجت وراء نعش صبيها لتُطمئنه بأنه لن يخاف بعد اليوم، وبأنها في النهاية هي التي اختارت مكان سلامه الأبدي، هذا السلام الذي لم ينعم به أخي لسنوات من طفولته بسبب هذا المجتمع.

حارِبنَ حتى النَّفَس الأخير كما فعلت أمي، وإن أردتُنّ حارِبنَ بالدموع والصراخ، فصوت المرأة ليس "جرصة". صوت أمي في المحكمة، وصوتها عند قبر أخي، صوت ورثتُه عنها لأتعلّم من خلاله كيف أحمي نفسي من قلّة الأدب الذكورية وتطفّل مجتمعنا وألسنته الراجمة.

لا أعلم  كيف حال صديقة والدتي اليوم، إلا أني أترقّب ثأرها من هذا الرجل المُعنِّف لأستبعد عودتها إلى مَن حاول قتلها. هل ستسامحه كما فعلت طوال سنواتها معه، لتلملم فضيحة الرجل "العصبي" كما يطالبها مجتمعها وبناتها؟ هل ستبقى ضحية خلفيتها المتطرفة وأفكارها الخاطئة عن المرأة المستقلة عن ظِلّ الرجل؟ أعلم بأنها لن تضطر الى الوقوف في المحكمة للمُطالبة بحضانة أولادها، فهي أصبحت جَدّة وتآخَت مع صفتها الوحيدة: الجَدّة التي يضربها جَدّ أحفادها.

كانت رباب تتمنى لي أن أصنع مستقبلاً "متّزناً" يلهيني عن "انحرافي" التحرري. كانت تترقّب أن أعرّفها على رجلي المستقبلي، الا أنها أبت أن تصدّق رغبتي في الابتعاد عن العقلية الشرقية التي تخنق كبريائي وكرامتي كامرأة. لا أبالي بأُمنية صديقة والدتي، بل رجائي الوحيد أن تستيقظ هي، وتتخلّى عن هذا الرجل، وتصبح الأم والجَدّة التي -وأخيراً- داوت جسدها من مرضه الجِلدي الخطير وتأهّبت لكي تسلك درباً مختلفة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها