الجمعة 2023/11/17

آخر تحديث: 22:27 (بيروت)

الزلزال المدمّر حقق أجمل أحلامي!

الجمعة 2023/11/17
الزلزال المدمّر حقق أجمل أحلامي!
الفنان عزيز أسمر والفنانة سلام حماد، رسما الأمل على ركام بلدة جنديرس في حلب (رويترز)
increase حجم الخط decrease
إسمي يسرى، من مواليد اللاذقية 1969، درست البكالوريا، لكني لم أحصل عليها كشهادة علمية، وهذا يعني أني حاصلة فقط على الشهادة الإعدادية التي تعتبر تحصيلاً علمياً لا بأس به بالنسبة إلى فتاة تعيش في قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها في تلك الفترة 150 شخصاً، يعيشون تحت خط الفقر وتعمل غالبيتهم في الزراعة وتربية المواشي.

تزوجت في عمر 27 سنة، بعد قصة حبّ مع شاب لم يكن قادراً على بناء منزل، ما جعل والدي يقدم لي ولزوجي غرفة ومطبخاً صغيراً وحمّاماً. أنجبت بناتي الثلاث في تلك الغرفة، وكل ما كنت أحلم وأفكر فيه كل يوم، هو الحصول على منزل خاص بي.

بعد سنوات من العمل المستمر والمجهد مع زوجي، استطعنا بناء منزلنا الخاص، وحين بدأنا بإكسائه جاءت الحرب في سوريا لتؤجل حلمي وأحلام كل السوريين تقريباً، إذ أصبح الهم الأكبر في ظل الحرب هو تأمين متطلبات الحياة اليومية من مأكل ومشرب.

حين بدأت الحرب تهدأ، بدأ حلمي يتنفس مرة أخرى، ما جعلني أعمل أنا وزوجي وبناتي بحماس من أجل ادخار المال لتحقيقه، لكن فجأة توفي زوجي! ومع موته تحولتُ إلى أبٍ وأم لبناتي وماتت كل أحلامي، ولم يعد لدي أيُّ أملٍ بأن أغادر تلك الغرفة التي منحني إياها والدي.

عشت عشرات السنين في غرفة واحدة مع زوجي وبناتي الثلاث. عملت لسنوات طويلة أعمالاً مُجهدة في الأرض وتربية المواشي. حرمت نفسي وعائلتي من أشياء كثيرة من أجل توفير المال، ورغم ذلك لم أشعر بالتعاسة والكآبة، وكنت إلى حد ما سعيدة ومرتاحة لأني مسكونة بالأمل، بأن هذا الوضع سيتغير يوماً ما، وأحقق أعظم أحلامي وهو العيش في منزل يخصّني، فيه غرف مستقلة للنوم، وصالون يتسع لاستقبال الضيوف، ومطبخ واسعٌ لا تتسرب منه رائحة الطبخ إلى الأسرّة.

لكنَّ الأملَ ليس ماردَ المصباح الذي يحقق الأحلام والأمنيات، هذا ما اكتشفته بعد موت زوجي، واكتشفت أيضاً أن الحياة فيها نوع من الألم من الصعب أن يتحمله الإنسان من دون أن يُصاب بأذية من العيار الثقيل. ولم يخطر في بالي بأن الحياة ستقسو عليَّ بهذا الشكل، وللدقة أكثر لم أكن أظن أن الحياة فيها أصلاً كل هذه القسوة.

التّداوي بالأحلام
حين كنتُ أشعر بالتعب الجسدي والنفسي من ثقل الحياة، وعمل الأرض والاعتناء بالمواشي، كنت أبدأ بأحلام اليقظة كي أخفف عن نفسي، أتخيل اليوم الذي سأنتقل فيه للعيش في بيتي الخاص. أشياء قد تبدو عادية للآخرين، لكنها بالنسبة إليّ شبه مستحيلة، بعيدة المنال. ما الذي سأفعله؟ سأقصُّ شعري وأضع مكياجاً ناعماً وأشتري فستاناً جديداً. وسأشتري ثياباً جديدة لأفراد عائلتي وأقيم حفلة صغيرة وأدخل بيتي كأني عروس انتهى عرسها منذ قليل. أردت مواساة نفسي... ألا يحقُّ للفقراء أن يحلموا؟!

منذ بداية زواجي والأحلام تملأني. أزرع أرضي وأحلم بموسمٍ جيد. أطعم المواشي وأحلم بأن تعطيني حليباً وفيراً وتنجب صغاراً سيكبرون. أشتري ورقة يانصيب وأحلم أني ربحت الجائزة الكبرى. وأحلم أيضاً بمصادفة أو معجزة مع زوجي الذي كان يعمل سائق تاكسي، تنقذنا من الفقر والحرمان، كأن يُسعف فتاةً تعرضت سيارتها لحادث في طريق مهجور وينقذ حياتها، فيكافئه والدها الثري بمبلغٍ كبيرٍ من المال. وفوق ذلك كله، حلمت بأن كل هذه الأحلام تحققت دفعة واحدة!

منذ بداية زواجي وأنا أعمل كل يوم، مهما كانت درجة تعبي الجسدي والنفسي، وغالبية ما كنت أعمل به كان مرهقاً ولا أحبه، من أجل جمع المال الكافي لمنزل خاص بي وبعائلتي.

كان أخي الصغير يقول لي: إن حلمي في الحصول على منزل، يشبه حلم كوبولا الذي قَبِلَ بأن يُخرِجَ فيلم العرّاب من أجل الحصول على المال لتحقيق حلمه في إنتاج وإخراج فيلم القيامة الآن.

أنا لا أعرف كوبولا ولا أفلامه، لكني فرحت لأنه استطاع  تحقيق حلمه. أما أنا، ومنذ وفاة زوجي، فلم أعد أفكر أو أتجرّأ على أن أحلم بأي شيء سوى الحصول على لقمة عيشي، كل يوم بيومه.

زلزال أيقظ الحلم
الحياة تحمل النكسات الجارحة، وفي الوقت نفسه قد تحمل مفاجآت مدهشة وغريبة. فبعدما فقدتُ الأمل نهائياً في الحصول على منزل، جاء الزلزال الذي ضرب اللاذقية في 6 شباط، ليحقق هذه الأمنية التي أصبح عمرها من عمر ابنتي الكبرى. ربما أكون الوحيدة في مدينتي التي منحها الزلزال، رغم قباحته وأذيته المفرطة، شيئاً جميلاً! فبسبب الزلزال تعرّض منزل والديَّ الذي كنت أعيش فيه إلى تصدعات، ما جعله غير آمن على الإطلاق. ولأن بناء منزل جديد كلفته عالية جداً، قام أخي بإكساء منزل الحلم وتجهيزه، المنزل الذي كنا بدأنا بنائه، زوجي وأنا. وخلال أيام قليلة، سأنتقل برفقة بناتي ووالديَّ العجوزين وأخي للعيش فيه.

لم يكن هناك شيء مُفرح واستثنائي في الوجود بالنسبة إليّ مثل تحقيق هذا الحلم، لكنه الآن لم يعد كذلك في ظل غياب من أحببت، ولأنه تأخّرَ كثيراً عن موعده، وتحقق بسبب أذية أصابت منزل والديّ.

أيعقلُ ألا نحقق أحلامنا، إلا إن خسرنا أشياء أخرى غالية، أو إن دفعنا ثمناً باهظاً من أجلها؟! أيام قليلة وأنتقل إلى منزلي الخاص، لكني لم أعد مهتمة. وللدقة أكثر، لست قادرة على دخوله كأني عروس انتهى عرسها منذ قليل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها