الأحد 2023/10/22

آخر تحديث: 00:31 (بيروت)

الأمهات يتألّمن مرتين

الأحد 2023/10/22
الأمهات يتألّمن مرتين
يوسف الذي تبحث عنه أمه: "عمره سبع سنين.. شعره كيرلي.. وأبيضاني وحلو"
increase حجم الخط decrease

"عمره سبع سنين.. شعره كيرلي.. وأبيضاني وحلو". لم تستطع أن تصفه بالشهيد. هو يُوسف الذي تبحث عنه أمه في مستشفيات غزة بين الجثث. يعيد المشهد إلى ذاكرتنا اللبنانية مشهد والدة الشهيد حمد العطار، الذي قُتل في إنفجار المرفأ في آب 2020، حين بدأت تبحث عنه في المستشفيات واصفة إياه، "إبني حلو ومليح وعيونة عسلية". أتتشابه الأقدار، أم الأمهات؟

أعيد فيديو أم يوسف، مراراً وتكراراً، وكأني أبحث معها عنه. فهل لنا كأمهات أن نُضيّع يوسف جميعاً، وأن نراه كما رأته أمه؟ نتألم هنا مرتين: مرة ككل الناس، ومرة كأمهات! يرجعني ذلك إلى مثل شعبي، نتوارثه من أجدادنا وأمهاتنا، كتعبير عن العجز الأمومي أمام هَول المجازر والحروب.. "يداي مربوطتان، مش عارفة أعمل شي!".

فعلاً، منذ اندلاع حرب غزة، وأنا مربّطة اليدين، لا أفعل سوى مشاهدة التلفزيون وتتبع الأخبار، أعمل، وأُفعّل نشاطي في وسائل التواصل. لم أُعدّ أي طعام بيتي خلال الأيام الخمسة الأولى لبدء عدوان غزة، بل اعتمدت على الطعام الجاهز، من دون أدنى تأنيب ضمير بأنه ضارٌ بصحة ابنتي. للوهلة الأولى، ومن دون تفكير، قررت ألّا أرسلها إلى المدرسة في بيروت، مخافة ضربة جنونية لإسرائيل. ورحت أقول أشياء كثيرة من دون تفكير. جهزت حقائب الثياب، رغم أني أقطن في منطقة شبه آمنة في بيروت. لم أفكر في أي مكان أكثر أمناً من بيتي. فكرت في أقرب مكان يمكنني السفر إليه قبل إغلاق محتمل للمطار. كل هذا بلا تفكير، كنت فقط أرسم سيناريو الهرب، كي لا تعيش طفلتي الحرب.

وحين "برد قلبي" كما نردد في الجنوب أيضاً، وإطمأنيت على طفلتي، رحت أسترجع تفكيري، أقله لأجيب على أسئلتها: "هل الشنط لنذهب عند جدو في الضيعة؟". فقط أجبتها بأننا هذه الفترة لن نمضي عطلة نهاية الأسبوع في الجنوب، تاتا وجدو هما اللذان سيأتيان إلى بيروت. ثم رجَتني، الأحد الماضي: "بليز خلينا نطلع على  الجنوب". كيف أفسر لإبنة الأعوام الأربعة، ماذا يعني الجنوب، وما تعنيه الحرب؟

لم أستطع تقديم أي وعود بحمايتها من أصوات القصف أو الغارات الوهمية، ولم أتجرأ على إخبارها كيف قضيت أيام حرب تموز 2006 في "بيت ستي" بلا خوف، إذ كان هاجسي الوحيد آنذاك ألّا نخسر منزلنا. وتمر أمام ناظري وفي مخليتي، إحدى ليالي تموز 2006، ليلة لم يهدأ القصف على ضيعتنا. كنت نائمة، واستيقظت فقط لأنظر عبر النافذة إلى بيتنا فأعرف إن كان قد دُمّر، وحين اطمأنيت على وجوده، عدت إلى النوم، فصرخت خالتي: "ما أروقك، كيف قادرة تنامي؟". في العام 2006، لم أكن أُمّاً.

ولحظة تبلُّغنا بإستشهاد زميلنا عصام عبدالله، وبكائي، وسؤال طفلتي "ليش زعلانة؟"، قلت لها بأن "رفيقي مريض، وسأذهب لأطمئن عليه"، وهممنا إلى الاعتصام أمام مكتب رويترز في بيروت، وكالة الأنباء التي استشهد عصام خلال عمله معها، ولم تسمِّ قاتله. حتى اليوم، أحتال على الكلام، وأكذب على ابنتي، في حين أني يجب أن أكون مصدر المعلومات البسيط، والأمان.

أيعقل أن نسرد القصص لأطفالنا عما يحصل؟ فما بالنا بأمهات غزة؟ كيف يحمين أطفالهن، من القصف والدمار والموت؟ كيف نبحث معهن عن يوسف وآخرين؟

نشاهد فيديوهات الأمهات، ونبكي، ونعجز عن فعل أي شىء. مراراً، راسلتُ صديقتي الصحافية في غزة، مرح الوادي، للإطمئنان عليها وعلى طفلها. وحين تتأخر في الرد، أقول بأنها استشهدت مع طفلها... وهي التي لطالما نشرت صوراً وفيديوهات لإبنها يلهو على شاطئ غزة. آمل أن أراها وطفلها على ذاك الشاطىء بخير، فأسمع صوت صغيرها الضاحك، يلعب بالرمال وتغمر قدميه الأمواج، فربما هذا إحساسه بالحرية، التي لم ينعم بها يوماً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها