الإثنين 2023/10/30

آخر تحديث: 23:07 (بيروت)

لا أريد الحرب.. متخاذلة أنا؟

الإثنين 2023/10/30
لا أريد الحرب.. متخاذلة أنا؟
"باب مفتوح على البحر" - أولغا ليمانسكي (1903-1988) - فنانة روسية أقامت في لبنان ورسمت يومياته
increase حجم الخط decrease
في زاوية مواربة من "حرش بيروت"، أجلس بصورةٍ يوميّة، لعشر دقائق وأحيانًا لساعات. أُدخن، أسمع الأغاني، وأرثي المدينة وأودعها. هذا حالي منذ السّابع من أكتوبر، بداية "طوفان الأقصى"، هذه طقوسي الخاصة لأوّدع المدينة التّي أكره وأحبّ في آنٍ معًا.

وإن كنت لا أدري سبب اتخاذي حرش بيروت، محجًا لوداعي البليد للمدينة، ولا أدري لماذا أرثيها بهذه الصورة المبتذلة، ورغم لومي الفجّ والموصول لنفسي، ولعاطفيتيّ السّاذجة، لكني قرّرت تأبين المدينة قبل أن أفقدها في حربٍ تتربص بها، تحثّها على التّورط، ومن المساحة الوحيدة (في نظري) التّي بقيت تشبهها.

أتذكر جليًّا، ذلك الشعور المباغت الذي اختلجني عصر اليوم، وأنا افترش الأرض، متكورةً على نفسي كجنينٍ أرعن مُحاط بأعقاب السّجائر، وللحظةٍ لم تستغرق أكثر من رمشة عين، سرت في جسدي رعشةٌ عندما تلقفت الشعاع المتذبذب نفسه الذي شاهدته في الأخبار لعصف الانفجارات في غزّة، مساء أمس، ينعكس في زجاج إحدى الشرفات المُطلة على الحرش. مزيجٌ من الأزرق الكوبالتيّ، والبرتقاليّ البرسيمونيّ، وكذلك القرمزيّ الفاقع.

رعشةُ الدنو الخطير، الذي لا مفرّ منه. رعشةُ الخبر الثابت وقعه في الأذن، والقلب، والعقل. رعشةُ الموت المتحذلق في المشهد، وفي الأخبار وفي شعاع المدينة.
يا ربي، ما هذا الألم؟ أهذر، متأملةً الشعاع.
***
طفلٌ مُدلى الرأس على يد أبيه في سيارة الأجرة. بينما يمتزج شعاع الشمس بشعره الكستنائي الفاتح. خيطٌ من الدمّ القاتم، حسبته ينساب على جبهته، ويَقْطُر نقطة، نقطة. فركت عينيّ محملقةً في خيط الدم، مستحيلٌ أن يكون حقيقيًّا.

أُفكر.
ثمّة أشياء تتمظهر لوحدها أمامك، تدلف من خاصرتك نحو عامودك الفقريّ، فرأسك، فشفتيك أو يديك. هذا بالضبط ما جعلني أكتب الآن تحديدًا، الفكرة الاعتباطيّة اللجوجة التّي يخذلني وعيي في قمعها. هي هناك، أراها، تتربص بيّ، ضاحكةً بجنون شيطانٍ يرقص على صدري.

أنانيةٌ بما يكفي ألا أرتضي حربًا، ولو في سبيل القضيّة، ما القضية؟ أحاول مراوغة عقلي الأنانيّ بأن أطفال غزّة هم أطفالي، ونسوة غزّة هن أخواتي، وشباب غزّة أصدقائي. لكن كذلك هي أحلامي، وعائلتي، وأصدقائي وكذلك هو بيتي، وكتبي، وأزيائي، وكل ما جمعته، زاد تكويني الفكريّ، لغتي، مدينتي الوحيدة. أتساءل هل سيتبدد كل هذا، في مهب الريح؟

هل يُمكن لأي كان، ومهما كان موغلاً في المخاتلة، خداع نفسه؟ السّؤال الذي يربكني هذه الأيام، وأنا أحاول جاهدةً التّحايل على اللّغة، تطويعها نحويًّا وعلى قالبٍ يُحاكي علم التّأثيل بما يُماشي المنطق والعقل، والعاطفة والذاكرة الجمعيّة، المتأججة، الحاقدة، من المجزرة، من التّطهير الممنهج. لكني أصِل، ورغم المراوغة، إلى خلاصةٍ أخيرة، لا أريد حربًا. لا أريد حربًا، لا أريد الموت، ولو في سبيل القضيّة.
***
أعمل حتّى ساعة متأخرة، منتصف الليل، فيما تمرّ الأغاني التّي أسمعها، كصوتٍ فوضويّ لا يعنيني. بغتةً، تنطلق أغنية Rivers of Babylon، لفرقة Boney M الشهيرة، التّي سطع نجمها مطلع سبعينيات القرن الماضي. أهرع لقراءة تعليقات المستمعين في "يوتيوب". جحافل من "الإسرائيليين"، يعبرون عن غبطتهم لسماع هذه الأغنيّة، الأغنيّة التّي سمعتها عشرات المرات، في ليالي السّهر الطويلة، غير متنبهة لمعناها الأصليّ.

أتساءل، كيف لمثل هذه النشيد الدينيّ إلى درجة التّصوف، أن يكون هزليًّا؟ كيف لهذه الحقيقة التّاريخيّة، أن تكون متناقضة جدًا؟ وكيف لهذا الحنين التّوراتيّ لأرض الميعاد أن يكون ساقطاً لهذا الحدّ؟ وكيف لشوق أمة في منفاها البابليّ أن يكون مُزيفًا، بهذه السّورياليّة؟

أنفجر بالبكاء العرضيّ، المُحرج حدّ الفجيعة. نُتفٌ من الاشمئزاز، تنصهر مع مزيجٍ من الخجل وجَلد الذات. "أطفال غزّة المنكوبين، يموتون، بينما أطرب للحنين الصهيونيّ لأرض الميعاد؟".. "إلى هذا الحدّ وصل معك التّخاذل؟"، أسمعها تلك الأصوات، تنخر في زوايا عقلي.
***
ما الذي يجعلنا نمقت الحرب؟ أهو الشعور الإنسانيّ البديهيّ بأحقيّة الحياة، أم هو تخاذلٌ ووضاعة؟ لا هذا ولا ذاك، بل هو الحلم النهائيّ، بأن نعيش حياتنا كبشر، بشر وحسب. ألهذه الدرجة أحلامنا مُحتقرة؟ ألهذه الدرجة يكون العالم متسامحًا إزاء ذبحنا، مجدّدًا؟ أهناك اتفاقٌ ضمنيّ مُكرس، على أن نظلّ، نحن سكان هذه البقعة الموحشة، هكذا؟ ضحايا، أرقام؟ نربت على أكتافنا لحظة الفاجعة، نردّد "معليش"، كصفعةٍ بوجه الأسد، والطغمة الفاسدة، وإسرائيل؟

أدرك أخيرًا، أن رغبتي في انتفاء الحرب، وحذف المحرقة وإبعادها، هي محض هراء تام، أمام شبحٍ أصمّ. وأدرك، أن الحرب لا تفعل، سوى تحميل كل متورط، وزر الجريمة. المنتصر والمهزوم سيان. الضحايا، قبر جماعيّ يحتضن الجريمة، نُصب تذكاريّ، يصرخ كل هنيهة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها