1
أي عراق هذا الذي يقدمه اليوم للشعب العراقي وللعرب وللعالم. طغاة بائسون تسلقوا في زمن بائس إلى مواقع القرار وقادوا هذا البلد العريق في الاتجاه النقيض بالكامل لتاريخه القديم جداً ولتاريخه الحديث الذي أنتجته ثورة العشرين؟!
كلا، ليس لهذا الذي نشهده اليوم في بلاد الرافدين أي رابط يربطه بعراق التاريخ وعراق الثقافة وعراق التحديث الذي تعرفت إليه في شبابي الباكر، وتكوّنت شخصيتي في ربوعه السمحة، ووسط شعبه العظيم، ومع العديد من كبار أهل الثقافة وأهل المعرفة وأهل النضال الديمقراطي العريق. ما الذي حصل لكي يدخل العراق بكل ما احتواه تاريخه من عظيم في هذا الزمن "الداعشي" العجيب الغريب الهجين، باسم إسلام هو نقيض مطلق لقيم الإسلام؟! ما هي تلك السياسة الخرقاء التي جعلت شعب العراق أسير صراعات متوحشة على أساس طائفي ومذهبي والتي لم يعرفه في تاريخه القديم ولم ير نظيراً له في المعاناة إلا في عهد الطاغية صدام حسين؟!
إن "داعش" و"الداعشية" و"الداعشيين" الذين يدمرون اليوم عراق الحضارة والثقافة والتسامح هم شركاء للذين يستولون اليوم على العراق وعلى مقدراته وعلى ثرواته ويتحكمون بمصائر شعبه ويستكملون بسياساتهم سياسات عهد الطاغية صدام حسين وعهد سلطة الاحتلال الأميركي الغاشم وزبانيتها وزبنائها من كل الجهات والاتجاهات. فالداعشية والداعشيون حتى وإن اختلفت أسماؤهم وإن اختلفت مواقعهم وإن اختلفت طوائفهم هم في الموقف وفي السلوك وفي الأهداف داعشيون، يغتصبون العراق وشعبه ويشوهون تاريخه. وهم بكل ما فعلوه ويفعلونه أعداء حقيقيون للعراق ولتاريخه القديم والحديث وأعداء لشعبه. وهم بهذا المعنى دخلاء على العراق حتى ولو جاءت ببعضهم إلى مواقع القرار صناديق الاقتراع الصحيح منها والزائف. جميع هؤلاء بأسمائهم المختلفة، وفي المقدمة منهم "داعشيو" هذا الزمن الغريب، هم بسلوكهم أعداء الحياة، وأعداء الإنسان، وحوش غاب بالمفرد وبالجمع. ومواجهتهم من أجل تحرير العراق وبلاد الشام منهم، هي مهمة تاريخية أمام العراقيين والسوريين واللبنانيين وكل العرب، ومعهم أنصار الحياة والحرية وكرامة الإنسان على الكوكب الأرضي في جهاته الأربع.
يذكرني هذا الواقع الكارثي الذي يعيش فيه العراق والعراقيون اليوم بتاريخ مجيد تعرفت إليه بالقراءة في بادئ الامر، ثم بالحياة في ربوعه ووسط شعبه في أواخر أربعينات القرن الماضي طالباً في مدارسه، ومناضلاً مع شبابه في ساحات المعارك الثقافية والسياسية والثورية. قرأت الكثير في كتب التاريخ القديم عن حضارات وادي الرافدين فأدهشني فيها ذلك الغنى في التنوع والتعدد الحضاري. وقرأت الكثير في كتب التاريخ الحديث عن ثورة العشرين وعن أول مرحلة في العراق الحديث في عهد الملك فيصل الأول، فرأيت عراقاً حديثاً، متعددة مكوناته، ورأيت شخصية عراقية لها فرادتها يعبّر عنها هذا التعدد في المكونات الثقافية والحضارية والإثنية والدينية وفي كل ما يتصل بالتنوع من سمات.
هكذا، وفور وصولي إلى رحاب العراق بدءاً من حدوده الغربية المشتركة مع سوريا، شعرت كأنني أعرف العراق منذ الولادة. وأحسست أنني أنتمي إليه بعقلي ووجداني، وبشغفي الذي لا شفاء لي منه، بالنماذج البشرية الفذة من كبار المبدعين فيه، أدباً وشعراً وفناً وفي كل ميادين الحياة والإبداع فيها.
كان العراق في أواخر الأربيعنات، وتحديداً في عام 1947، في حالة غليان سياسي وثقافي ووجداني. ووجدتني على الفور جزءاً من تلك الحالة من الغليان في وجوهها المتعددة. كنت ضيفاً على المفكر التراثي حسين مروة، ابن عم والدي الشيخ أحمد، الذي كان أحد خريجي جامعة النجف في الفقه الشيعي. وكان قد تحرر من زيه الديني، ومن ارتباطه بالقديم من تاريخه النجفي، وصار مدنياً حديثاً، مستكملاً في صيغة حياته الجديدة في تدريس الأدب والفلسفة ما كان قد دخل في عقله وفي وجدانه من قيم إنسانية عظيمة في الدين، متحرراً من كل البدع والخرافات التي كانت رموز دينية سلفية تحاول تشويه تلك القيم وتوجيه المؤمنين في الاتجاه النقيض لها. وكان لحسين مروة شركاء في المنهج الجديد لحياته ممن كانوا قد تخرجوا من النجف، وكان في مقدمتهم شاعر العراق والعرب الكبير محمد مهدي الجواهري.
كان العراق في ذلك التاريخ، في أواخر أربعينات القرن الماضي عندما زرته وصرت مواطناً من مواطنيه، قد فقد الكثير مما كان قد أدخله في حياة البلاد والشعب الملك فيصل الأول من مظاهر الحضارة، أهمها نشر المعرفة في صفوف الأجيال الجديدة، من خلال تعميم التعليم وإرسال العديد من البعثات الدراسية إلى الجامعات في بلدان الغرب، لكي يؤسسوا بعد عودتهم ما صار معروفاً في تلك الحقبة من تاريخ العراق من تميّز بعدد مثقفيه في كل ميادين المعرفة في العلوم الصحيحة والعلوم الاجتماعية والآداب والفنون في ميادينها المختلفة.
كثرت في تلك المرحلة الصراعات وتعددت قواها حول تحديد مستقبل العراق وحول دوره في المنطقة، بين قوى ديمقراطية وراديكالية كان اليساريون أبطالها، وبين قوى محافظة ذات صلات وثقى بدوائر أجنبية كانت لها أهدافها المتصلة بالصراع بين العالم الرأسمالي القديم والعالم الاشتراكي الجديد الذي كان قد نشأ وتكوّن في نهاية الحرب العالمية الثانية بفضل الانتصارات التي حققها الجيش الأحمر السوفياتي في الحرب ضد القوى النازية والفاشية. وكان للثقافة في ميادينها المختلفة دورها الخاص في ذلك الصراع. وكانت لها رموزها من الكبار في الأدب والشعر والفن واللغة والتاريخ والاجتماع. وكنت سعيداً بالتعرف إلى بعض تلك الرموز وإقامة علاقات صداقة معها.
كانت شوارع بغداد وأحياؤها ومقاهيها وساحاتها وميادينها ومدارسها مرتع شبابي ومتعتي ومنهل ثقافتي منها وفيها. لكن لشارع الرشيد وشارع أبي نواس وشارع المتنبي، شارع المقاهي الثقافية، والباب الشرقي وباب المعظم وحي الأعظمية وشارع الوزيرية ومنطقة الكرادة الشرقية وجسور العبور بين الرصافة والكرخ، كانت لكل تلك الأماكن أدوارها في تعرّفي الحقيقي على للعراق وبداية حبي العميق له ولشعبه ولتاريخه.
كان الصراع بين القوى السياسية التي أشرت إليها يتعاظم أمام ناظريّ بسرعة. وكان ذلك الصراع من قبل القوى اليسارية والقومية ديمقراطياً. وكان يتّسم من قبل أهل السلطة بالقمع الذي عرفته بلدان عديدة في الغرب وفي الشرق. لكن ذلك الصراع لم يتخذ في ذلك الحين من قبل ال جبهتين المتصارعتين أي طابع طائفي أو إثني من النوع الذي شهدناه ونشهده في عهود الطغاة السابقين والحاليين. كان صراعاً سياسياً حول أهداف وبرامج ومصالح متصلة بها حول مستقبل العراق وحول الموقع الذي يعود له في المنطقة. وعندما بلغ ذلك الصراع أوجه، وكنت شاهداً عليه وحاضراً بكل مشاعري فيه إلى جانب القوى الوطنية والديمقراطية اليسارية منها تحديداً، اندلعت "وثبة" شعبية عارمة شاركت في بداياتها وسقط فيها عدد من الشهداء، كان بينهم جعفر الجواهري شقيق الشاعر الجواهري. انتصرت "الوثبة" في تحقيق هدفين مباشرين. الهدف الأول تمثل بإسقاط المعاهدة التي كانت الحكومة العراقية برئاسة صالح جبر قد وقعتها مع الحكومة البريطانية وحملت اسم معاهدة "بورتسماوث". أما الهدف الثاني فتمثل بحل البرلمان وتحقيق فسحة واسعة من الديمقراطية في البلاد غير مسبوقة سمحت للأحزاب بممارسة نشاطها بحرية.
انتصرت إرادة الشعب بفضل "الوثبة" لكن... ؟َ!!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث