كان ذلك في أواخر عام 1947. كنت أقيم في مدينة الكاظمية التي تقع في شمالي مدينة بغداد على ضفاف نهر دجلة. كان منزل حسين مروة الذي كنت أقيم فيه يقع بالقرب من "الحضرة" التي تضم قبريّ الإمامين الشيعيين موسى الكاظم ومحمد الباقر.
كان العبور من الكاظمية إلى بغداد يتم فوق جسر خشبي تكاد تشعر وأنت تعبره مشياً على الأقدام أو في إحدى الحافلات كأنك مهدد بالوقوع في أية لحظة في قعر النهر الذي كانت مياهه الغزيرة المنسابة ستقودك، إذا ما وقعت فريسة لجريانها السريع، إلى ما لا تعرف من أعماقه وأبعاده. لكن ذلك الجسر الخشبي كان، برغم ما كانت تشير إليه اهتزازاته وقعقعة جوانبه وضجيجها، أميناً على حياة العابرين فوقه، وقوياً يستعصي على التفكك والإنهيار. إلا أن الوصول إلى قلب بغداد، عبر ذلك الجسر الخشبي، كان يقضي بالمرور الإلزامي في حي الأعظمية. والميزة الأساسية لحي الأعظمية إنما تكمن في أنه يحتضن مقام الإمام أبي حنيفة. وكان ذلك المقام يقع في الطرف الغربي من ساحة كبيرة، لا أعرف أين أصبحت الآن وسط زحام الأحداث. وكان يقع في الطرف الشرقي من الساحة المقر العام لأمانة العاصمة.
أثار فضولي وأنا أعبر للمرة الأولى ذلك الجسر، الذي يربط الكاظمية ببغداد، ما شاهدته من تشابه ومن اختلاف بين المعالم الدينية والعمرانية في كل من مدينة الكاظمية الشيعية، وحي الأعظمية السني. وكان عليّ أن أبحث عن الطريق الموصل إلى اكتشاف السر الكامن في تلك المعالم في الضفة الشمالية من النهر، وفي الضفة الجنوبية منه، بالإختلاف وبالتشابه بين الضفتين وبين تلك المعالم ذاتها. لكنني لم أتابع ذلك البحث، بعد أن استقر بي المقام في العراق، وبعد أن تعمقت علاقتي ببغداد، المتعددة بطوائفها وبمذاهبها، والمتعددة القوميات غير العربية فيها. وكان دليلي الطبيعي في ذلك الحين، إلى الكثير من المعارف وإلى الكثير من العلاقات، ابن عمي ورفيق عمري نزار مروة، الإبن البكر لحسين مروة. ذلك أننا كنا نجتاز الطريق ذاته كل صباح إلى بغداد، أنا إلى المدرسة "الجعفرية"، مدرستي، وهو إلى مدرسة "شمّاش" اليهودية، مدرسته. وكان أبو نزار رفيقنا في الطريق ذاته وفي الوقت ذاته وفي الإتجاه ذاته لإلقاء محاضراته في عدد غير قليل من مدارس بغداد، ومن بينها "الجعفرية" و"شمّاش"، فضلاً عن ممارسة مهنته الكتابية في صحف ومجلات تلك الفترة من حياته وحياتنا في العراق، في الربع الأخير من أربعينات القرن الماضي.
كنا، نزار وأنا، شغوفين في متابعة النشاط الأدبي. كنا في ذلك الحين، مشاريع أدباء. وكنا، في الوقت ذاته، نحرص على إقامة علاقات مع من كانوا أصدقاء حسين مروة من أدباء تلك الحقبة من تاريخ العراق، الكبار منهم، والناشئين. وكنا نمارس الكتابة، كل منا على طريقته، في الميدان الأدبي، إبداعاً وترجمة. وكانت جريدتا "الرأي العام" و"الأخبار"، في ملحقيهما الأدبيين، المنبرين اللذين كنا نمارس فيهما بدايات اهتماماتنا الأدبية، قراءة ونشراً. وكنا نتابع ما كان ينشر في المجلات الأخرى، لا سيما "الهاتف" لمؤسسها جعفر الخليلي، و"الحضارة" لمؤسسها محمد حسن الصوري.
كان بلند الحيدري، في ذلك الزمن، قد بدأ يشق طريقه كشاعر حداثي. وكان قد أصدر أول ديوان له بعنوان "خفقة الطين". وكان قد أنشأ مع عدد من الأدباء والفنانين الشباب جمعية أعطوها صفة المقهى الذي كانوا يلتقون فيه وأعطوه اسماً "وجودياً" هو "مقهى الواق واق"، تشبهاً بـ"جزيرة الواق واق" الأسطورية. واختاروا لذلك المقهى موقعاً وسطاً في حي الأعظمية بين طرفي ساحتها، أي بين مقام الإمام أبي حنيفة ومقر أمانة العاصمة، وفي الجهة الجنوبية تحديداً.
قررنا، نزار وأنا، أن نقيم علاقة مع تلك الشلة من أدباء وفناني تلك الحقبة، ليس للإنتماء إليها بالضرورة، بل للإستفادة من النقاشات التي كانت تجري بين أعضائها، عندما كانوا يلتقون في ذلك المقهى، الإستفادة بالإستماع وبالإستمتاع فقط.
كانت الشلة مؤلفة من الشاعر بلند الحيدري ومن شقيقه صفاء الحيدري الشاعر البوهيمي، ومن المثقف القادم حديثاً من فرنسا ابراهيم اليتيّم، حاملاً معه حصيلة ما كان قد اكتسبه من ثقافة في عاصمة الثقافة العالمية، ومشيراً، خلال حديثه باللغة الفرنسية وباللهجة الباريسية، إلى أنه الإبن البار لتلك العاصمة ولثقافتها وللغتها وللهجتها، التي تجعل حرف الراء يقرأ كما يقرأ حرف الغين. وكان من بين الشلة كذلك النحات خالد الرحال، والشاعر نزار سَليم، شقيق النحات جواد سَليم الذي لم يكن قد عاد من أوروبا حاملاً معه تراثه الذي سرعان ما صار واحداً من الرموز الأساسية لفن النحت العراقي الحديث.
كنت قد تعرفت إلى بلند الحيدري من خلال حسين مروة. وكانت قد بدأت تربطني، خصوصاً، علاقة بخالد الرحال. لكنني لم أكن أعرف قبل ذلك كلاً من الثلاثة الآخرين، ابراهيم اليتيّم، ونزار سَليم وصفاء الحيدري. وكانت علاقتي ببلند الحيدري هي واسطتي الأساسية للدخول إلى المقهى برفقة نزار مروة. وكنا قد عرفنا المواعيد التي تبدأ فيها لقاءات الشلة، والمواعيد التي تبدأ فيها سجالاتهم. وكانت تلك السجالات تبدأ بعرض يقدم فيه كل منهم ما عنده من قراءات، ومن أخبار أدبية وفنية، ومن أخبار ثقافية وسياسية عامة. ولم تخل الجلسات من قراءات شعرية لكل من الشعراء الثلاثة، بلند وصفاء الحيدري ونزار سَليم.
كان بلند الحيدري وابراهيم اليتيّم ينتميان في ذلك الحين إلى الحركة الوجودية. وكان جان بول سارتر هو الرمز الأكبر لتلك الحركة. ولم أكن قد سمعمت بتلك الحركة قبل ذلك التاريخ. في حين أن رفيقي ونسيبي نزار كان قد سمع بها، وقرأ، واستوعب بعض ما تشير إليها أفكارها وأفكار سارتر. واكتفيت بما سمعته يتكرر في أحاديث كل من بلند الحيدري وابراهيم اليتيّم. وقد بدا لي في ذلك الحين ما يشبه التنافس بين الأثنين حول من هو الأكثر ثقافة بشكل عام، ومن هو الأكثر تعبيراً عن الوجودية في أفكاره وفي سلوكه. وفي حين كانت ثقافة بلند إنكليزية فإن ثقافة ابراهيم كانت فرنسية. لكن ابراهيم اليتيّم بدا لي أكثر غروراً من بلند، لا سيما في الطريقة التي كان يعرض بها أفكاره، وكان يبدو لي فيها ابراهيم كعالم بأمور لا يمتلك أسرارها سواه. غير أن ذلك الإنطباع سرعان ما تبدد عندما دخلنا، بعد عقد ونيف، في علاقة صداقة حميمة عرفتني إليه وإلى شخصيته وإلى ثقافته وإلى خصاله الإنسانية. إذ كنا قد انتقلنا كلانا من أفكارنا القديمة وتحولنا يساراً. أما بلند فكان أكثر مرونة وأكثر احتراماً لمشاعر الشابين، نزار وأنا، القادمين حديثاً إلى عالم الأدب. وبدأت العلاقة بيني وبين بلند تتوطد، منذ ذلك التاريخ. لكنها صارت، فيما بعد، صداقة عمر بكل المعاني. وكان قد تحوّل هو الآخر من الوجودية إلى اليسار مثلي.
أما صفاء، شقيق بلند، فكان إنساناً واقعياً بمعنيين، بمعنى البساطة في التعامل مع الحياة، وبمعنى المباشرة التي كانت بوهيمته تعبّر عنها بوضوح صارخ. كان شعر صفاء إباحياً ومباشراً. وكانت أحاديثه عن مجونه تثير دهشتي. وكان شخصاً أليفاً، حتى بالنسبة إلى من يخالفونه بوهيميته ومجونه. وكان مرحاً ويحب المزاح. لكن كلاً من خالد الرحال ونزار سَليم كانا مختلفين عن الآخرين في أمور عديدة. وفي حين كان نزار سَليم خجولاً وانطوائياً وقليل الكلام، برغم ثقافته التي توازي ثقافة بلند الحيدري وابراهيم اليتيّم، فإن خالد الرحال كان مرحاً، وكان قد بدأ يصبح فناناً مبدعاً، صاعداً إلى ذرى المجد في منحوتاته. لكن ثقافته الفنية كانت الأعمق، والأكثر التصاقاً بشخصيته، والأكثر تعبيراً عنها. إلا أنه لم يضع حاجزاً بينه وبين الشعر والشعراء، وبين الشؤون الثقافية الأخرى.
كان خالد الرحال إنساناً جميلاً، محباً للحياة، سريعاً في تكوين علاقات الصداقة مع الآخرين. لذلك توطدت علاقة الصداقة بيني وبينه منذ البدايات. واستمرت على مدى العامين اللذين قضيتهما في العراق. ولم نعد نلتقي منذ ذلك التاريخ.
لم يعش طويلاً مقهى "الواق الواق" في حي الأعظمية. وانقطعت علاقاتي به، بعد أن توسعت علاقتي أفقياً بعالم الأدب والسياسة، وبعد أن اخترت السير في حياتي في يسار الطريق ضد يمينها. وفي مطالع ستينات القرن الماضي، أي بعد عقد ونيف من ذلك التاريخ الأول، صارت لعلاقتي مع بلند الحيدري ومع ابراهيم اليتيّم نكهة أخرى.
وإذ انقطعت الصلة بيني وبين تلك المجموعة من الشعراء والفنانين، فقد ودعت بحزن كبير صديقي الدائم بلند في أواسط تسعينات القرن الماضي، بعدما كنا قد التقينا في لندن، وتحدثنا عن مشاريع كثيرة وكبيرة عنده وعندي للأعوام الثلاثة.
لكن ما بقي في وجداني وفي ذاكرتي من بلند ومن سيرته ومن شعره ومن ثقافته الواسعة ومن شخصيته الجميلة كبير وعميق، يستعصي على النسيان. وتحتفظ مكتبتي بالطبعة الأولى من ديوانه "خفقة الطين". كما تحتفظ بالمجموعة الكاملة لأشعاره، مزينة بإهداء جميل منه.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث