كان الغليان السياسي والاجتماعي يتهيّأ للإنفجار في ذلك التاريخ بانتظار الفرصة الملائمة. وكان قد انفجر ذلك الغليان بالفعل أولاً في عام 1952، ثم توالت الانفجارات بصيغ شتى إلى أن جاء عام 1958 الذي كانت قد ولدت فيه الشروط الضرورية لقيام ثورة الرابع عشر من تموز. والمعروف في الأوساط العراقية ولدى المؤرخين العرب والأجانب لتلك المرحلة أن الأحزاب العراقية كانت قد شكلت قبل عام من "انقلاب" الرابع عشر من تموز جبهة وطنية ضمت الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث والحزب الديمقراطي الكردستاني. وهي الجبهة التي كانت تتواطأ مع عدد من الضباط من رتب مختلفة –وكان للحزب الشيوعي موقع مهم في القوات المسلحة- لإعداد الانقلاب المنتظر ولتحديد موعد القيام به عندما تتوفر الشروط. وكانت تلك الشروط في الواقع مهيّأة. وهكذا وقع "الانقلاب". وأعقب الانقلاب على الفور خروج الجماهير بالملايين إلى الشارع من أجل إعطاء طابع جماهيري ثوري لذلك الانقلاب استناداً إلى دور الجبهة الوطنية في الإعداد له وفي دعمه. الأمر الذي أعطى فعلاً للإنقلاب صفة الثورة. وكانت للحزب الشيوعي اليد الطولى في الانقلاب، ليس فقط من داخل القوات المسلحة بل من قبل ما كان يتمتع به الحزب الشيوعي من نفوذ وسط الجماهير. وبهذا المعنى كان العراقيون يعتبرون ثورتهم، حتى وهي تتخذ طابع انقلاب عسكري، مختلفة في جوهرها عن كل الانقلابات التي كانت قد حصلت في العراق وسوريا، بما في ذلك "ثورة" 23 تموز في مصر التي قام بها الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر. ولكثرة ما جرى من حديث حول طابع الثورة وحول قواها وحول أهدافها المعلنة فقد جرت مقارنات معي بالذات وربما مع آخرين، أولاً في بيروت ثم لاحقاً في بغداد قدمها لي بعض مثقفي الحزب الشيوعي الذين كنت قد التقيت بهم خلال زيارتي إلى بغداد في عام 1960، مقارنات بين الثورة العراقية والثورة المصرية أولاً، للتأكيد من قبل أولئك الرفاق بأن ثورتهم هي ثورة شعبية وأن الثورة المصرية هي انقلاب عسكري كان من أوائل ما قام به قادته إعدام إثنين من العمال لأنهم قادوا إضراباً طالبوا فيه ببعض حقوقهم. وكان من أولى قرارات ذلك الانقلاب حل جميع الأحزاب القديمة ذات التاريخ العريق في مصر وملاحقة عدد من قادتها وزجهم في السجون والمعتقلات. وكان ذلك الحكم القاسي من قبل الشيوعيين العراقيين على الثورة المصرية، برغم إنجازاتها، يستند إلى التدخلات الفظة التي قام بها الناصريون والبعثيون بتوجيه من قادة الجمهورية العربية المتحدة ترافقت بمحاولات انقلاب تمّ قمعها ومحاولات اغتيال طالت زعيم الثورة عبد الكريم قاسم. وجرت أمامي في الآن ذاته مقارنة من نوع آخر بين الثورة العراقية والثورة الكوبية أكد لي فيها الرفاق إياهم بأن الثورة العراقية كانت وراءها ومعها كل أحزاب العراق وفي مقدمتها الحزب الشيوعي. في حين أن الحزب الشيوعي الكوبي كان غائباً ومغيّباً عن الثورة الكوبية، برغم اعترافهم بأنها كانت ثورة عظيمة ومجيدة.
غير أن تلك المقارنات لم تكن ذات أهمية بالنسبة للمجرى الذي اتخذته الثورة بعد انتصارها، سواء في داخل العراق حيث بدأت الصراعات بين الأحزاب حول أدوارهم فيها وحول مواقعهم في السلطة الجديدة وحول دور وموقف عبد الكريم قاسم زعيم الثورة، فضلاً عما كان يرافق ويلاحق الثورة من الخارج من مؤامرات، لا سيما من قبل الجمهورية العربية المتحدة التي كانت قد أصبحت بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر وطموحاته في توسيعها لكي تشمل العراق أولاً ثم اليمن ولبنان في وقت لاحق. وسرعان ما طغت على الوضع في العراق تلك الصراعات من الداخل والخارج وسالت دماء كثيرة في محاولات الانقلاب الفاشلة. وكادت تلك الصراعات تعطل ما كانت قد اتخذته قيادة الثورة من قرارات تاريخية تمثل قسم أساسي منها بالدستور الديمقراطي الجديد، كما تمثل في أمور أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية. وصارت جمهورية 14 تموز بفعل تلك الصراعات أمام أخطار حقيقية تهددها من داخلها في الدرجة الأولى ومن خارجها.
ويهمّني هنا أن أشير إلى الاضطراب الذي ساد في موقف الحزب الشيوعي من الزعيم عبد الكريم قاسم وموقفه هو من الحزب. ذلك لأن الحزب الشيوعي كان، كما أشرت إلى ذلك، القوة الأكبر وسط الجماهير وداخل القوات المسلحة. الأمر الذي أخاف عبد الكريم قاسم وجعله يتخذ مواقف استفزت الحزب من دون أن تقوده إلى قطع علاقته أو تحجيمها مع الزعيم. ومعروف أنه في تلك الفترة بالذات، في ظل الاضطراب في العلاقة بين الحزب وعبد الكريم قاسم، نظم الشيوعيون مظاهرات مليونية في الشارع تحت شعار "عاش الزعيم عبد الكريم الحزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيم". الأمر الذي عمّق الحساسيات القائمة بين الفريقين. وهكذا كانت الثورة بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم تواجه مصيرها بين مؤامرات داخلية كان أبطالها البعثيون والناصريون متفقين ومختلفين من جهة، وصراعات مستترة بين الشيوعيين وعبد الكريم قاسم من جهة ثانية. وظلت عملية التفكك تتواصل داخل الجمهورية الجديدة في السلطة وعلى تخومها إلى أن انتهز البعثيون ذلك التفكك داخل السلطة وداخل قوى الثورة وانقضوا على سلطة عبد الكريم قاسم الذي كان قد أصبح وحيداً من دون أن يدرك ذلك، وانقضوا في الآن ذاته وبشكل وحشي فاشي النزعة على الشيوعيين في كل المواقع التي كانوا فيها وسط الجماهير وداخل القوات المسلحة. وحصلت المجزرة التي قضت في تلك الصورة البشعة على جمهورية 14 تموز بطبيعتها الديمقراطية. وبدأ صراع من نوع آخر بين البعثيين والناصريين إلى أن تم الاستيلاء بالكامل في 14 تموز من عام 1968 من قبل البعثيين على السلطة منفردين.
هكذا انتهت حقبة كانت رائدة وواعدة في تاريخ العراق الحديث تمثلت في جمهورية الرابع عشر من تموز. ودخل العراق في ظل حكم البعث في حروب داخلية وخارجية بقيادة الطاغية صدام حسين. وأدت سياسات ذلك العهد بكل ما ساد في السلطة من استبداد دموي ومن حروب داخلية وخارجية استمرت على امتداد أربعين عاماً إلى الاحتلال الأميركي الغاشم للعراق الذي يتحمل صدام حسين وحكمه المسؤولية الكاملة عنه وعن الجرائم الذي ارتكبت باسم ذلك الاحتلال الغاشم.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث