الأحد 2014/06/22

آخر تحديث: 14:16 (بيروت)

في انتظار الكرة المربعة!

الأحد 2014/06/22
في انتظار الكرة المربعة!
مشجعات فريق غانا في فورتاليزا البرازيل (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease

في كلّ مرة أرى الناس مجتمعين أمام شاشة تلفزيون يتابعون مباراة كرة قدم، أتذكر زوج خالتي الذي كان يردد دائماً: "لا يهمني الفوتبول طالما أن الكرة دائرية، سأهتم بها عندما تصبح مربعة وتحتاج جهداً اضافياً من اللاعب".

في الفوتبول يجتمع كلّ ما لا يمكن تحمله بسهولة: المنافسة، البطولة، الأعلام، الوطنية، التعصب، الوفاء الأعمى، الهيجان الشعبي، العمل الجماعي، الربح، التحدي، الرهان، استعراض القوة، وخصوصاً هذه الأعداد الكبيرة من الناس. ثم هناك هذه الطابة المسكينة التي تتلقى ضربات من أقدام ميليارديرية وهي بريئة من ايّ ذنب! هذا ما كتبته في "فايسبوك" قبل أيام، بينما كلّ الأنظار كانت متجهة الى مباراة شارك فيها الفريق الألماني. لم أهتم حتى لمعرفة ضد أيّ منتخب لعب الألمان. دقائق، وشعرتُ بالذنب لنشري مثل هذا الكلام المناهض للكرة. فحمّى العرس القروي كانت قد ضربت أقرب أصدقائي وأكثرهم ثقافة ووعياً. لم أرد الاستفزاز على قاعدة "خالِف تُعرف"، ولم يكن هدفي التعالي على رياضة هي الأكثر شعبية على كوكب الأرض. كنت أنوي المساهمة في ظاهرة لا أفهمها. ثم، مَن يتجرأ على العبث بحبيبة الجماهير؟

أمضيتُ قسطاً من طفولتي، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، أستمع الى الفوتبول. نعم، كنت "أستمع"، ونادراً ما أشاهد. في لحظات الذروة، كنت أسترق النظر الى التلفزيون الذي كان يبث آنذاك بالأسود والأبيض. كان صوت المعلِّق في قناة الدولة المنهارة، يصدح عالياً في فضاء البيت. مع كل كلمة "غوووووووول"، كنا نسمع والدي يصرّخ بكل ما أوتي من قوة. كان "إرهابه" يمسّ جدران البيت عند كل هدف يسدده فريقه المفضل. أحياناً كان يخطئ ويصرخ في دعم فريق آخر. وفريقه المفضل هذا كان يتغير أحياناً. لكن ظلت فرنسا، "الأمّ الحنون"، العنصر المشترك بين المراحل كافة. ثم لم أعد أعرف مَن يشجع. لكن، خلافاً لغيره من المشجعين، كانت "تحالفاته" بريئة، ولا تنطوي على اعتبارات سياسية وعقائدية. من تلك المرحلة، أذكر بعض الأسماء التي طواها النسيان اليوم: فرانز بكينباور وميشال بلاتيني. الثاني هو أكثر من صمد في الذاكرة. كان يحمل اسماً جميلاً، انيقاً، خليط من الفرنسي والايطالي، يكاد يكون اسم كاتب روايات بوليسية معقدة. في المباراة التي واجهت فيها فرنسا ألمانيا خلال كأس العالم 1982، كان بلاتيني إلهاً يركض على قدمين.

لم أهتم بالكرة، ربما لأني لم أفهم ما هو التسلل، رغم جهود والدي المتكررة لإفهامي. ولم أفهم كذلك كيف لمس مارادونا يد الله. كنت أجدها مضيعة وقت، مع أن وقتنا كان ضائعاً في كل الأحوال. كانت الكرة "محاولة لمواصلة الحروب بأدوات اخرى"، كما يقول أحدهم، فوجدتني أميل الى الأفلام الفرنسية الناعمة حيث يترك العشيق عشيقته لا نعرف لماذا ويعود اليها لا نعرف كيف. دزينتان من الرجال يركضون خلف طابة؟ So what! واستمر عدم اكتراثي الى أن علمتُ ان المخرج الأميركي ستانلي كوبريك يعشق النقل المباشر لكرة القدم عبر محطات التلفزيون ويرى فيه درساً اخراجياً. بدأتُ اكتشف شيئاً فشيئاً أن كثراً ممن أحبهم وأحترمهم هم من محبّي الكرة. قرأتُ ان ألبير كامو كان يردد أن الأخلاقيات التي تعلمها في حياته أخذها من الكرة عندما كان حارس مرمى. فتعلم أن يتوخى الحذر، لأن الطابة لا تأتي أبداً من حيث ننتظرها. اذا كان اثنان ممن "أنحني" أمام عظمتهما يريان في الكرة لعبة ذكية وأخلاقية ومسلية، فلا شكّ أن الخطأ فيّ إذا لم أحبّها.

بيد أن أكثر ما كرّهني في الفوتبول على مرّ السنوات هو الجمهور، وتحديداً الجمهور اللبناني. لم أستوعب يوماً هذه الحماسة المبالغ فيها لمنتخبات ودول. أضف أني أكره الأعلام، كل الأعلام. حماسة تزداد بشكل مَرَضي وكيدي وتحريضي خلال المونديال، محولة بعض اللبنانيين الى "أقليات" في بلد يسيطر عليه برازيليون وألمان وايطاليون. ولعل لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي يضم هذا القدر من الجاليات التي لا تستطيع العودة الى "أوطانها" من دون فيزا. أما الأسباب التي تجعل معظم اللبنانيين يميل الى فريق دون آخر، فهذه لوحدها لمحة فكاهية: فهناك فتيات يشجعن المنتخب الايطالي من أجل عيني الأسمر الطويل فرناندو، وهناك مَن يساند البرازيليين حباً بالسامبا، ومَن يحب هولندا لأنه زار "المقاطعة الحمراء" مرة وأغرم بها.

يلاحظ المتابع من بعيد أن قلة التي تحب الكرة لتقنيات اللعيبة. ولعل النموذج الأسوأ هو مَن يناصر المنتخب الألماني بسبب النازية وهتلر. في حين أصبح هذا الفصل من تاريخ ألمانيا عاراً عليها وحاول الألمان مراجعته ونقده والقفز فوقه، لا يتوانى اللبنانيون عن اختزال بلاد كاملة في رمزها الأحقر: الصليب المعكوف. إذا أضفت إلى هذا كله مظاهر الفرح التي تصل احياناً الى حدّ التشبيح في الطرقات واطلاق الزمامير المزعجة من أجل انتصارات وهمية لا علاقة للبنان بها لا من بعيد أو من قريب، تصبح الكرة حدثاً تُفضَّل مشاهدته على سماعه!

increase حجم الخط decrease