الأربعاء 2014/07/09

آخر تحديث: 18:52 (بيروت)

رسالة إلى صديق يشجع البرازيل

الأربعاء 2014/07/09
رسالة إلى صديق يشجع البرازيل
increase حجم الخط decrease

يا صديقي لا تكن هكذا، حزيناً ومكسور الخاطر.

لقد كانت هزيمة رائعة. واحدة من الهزائم العظمى. هزيمة مُثلى، من تلك التي يحلم بها التاريخ. هزيمة ترقى إلى مصاف الملحمة، إلى الأسطورة التي قد لا يصدقها الناس بعد مئة عام من الآن. إنها الهزيمة النكراء التي لا يمكن لنصر، مهما كان كبيراً، أن يرقى إلى مصافها. إنها هزيمة تشع كشمس جلية جحيمية حارقة. هزيمة مكتملة لا عودة عنها ولا فرار منها.

كأنها من أنواع القيامة، هزيمة البرازيل. غرق خرافي لباخرة جبارة، ينتفي معه سبب ذكر اسم الباخرة واسم الغرق. هكذا، من لحظة دوي صافرة الخلاص، خطت هذه المباراة إلى قلب التاريخ وانتصبت شامخة لا تنسى.

ومن ينسى. أقول لك، خذها بمرح، هكذا كان مزاج التاريخ وهكذا كان مزاج اللاعبين ومزاج العالم. لقد كانوا رائعين. لم تنقص الفرسان الصُّفر الشهامة الكافية لأن يتخلوا عن المجد والذهب وغيره من التفاهات والأحلام بنجوم زائدة على قمصان. لقد عبروا إلى الجهة الأخرى من المرآة، حيث العالم أحلى والمباريات لا تقاس بنتائجها بل بما حركت من مشاعر. وهم البارحة أبكوا الناس وأضحكوهم، وكانوا شكسبيريين كباراً على مسرح أخضر يهرولون بخفة قافزين من التراجيديا إلى الكوميديا، بخفة المحترفين ولياقة، نعم سأستخدم التعبير الشائع، ملوك السامبا.

نعم يا عزيزي، لقد أعادوا للتعابير البالية من شدة الاستخدام، معناها ورونقها. ملوك السامبا، شعراء أميركا التائهون، السحرة.. آخر المهرجين وأكثرهم ذبولاً ورونقاً..

متى حدث ذلك آخر مرة؟ متى رأيت أحد عشر رجلاً يتخلون عن واجبهم الوطني ليتحولوا إلى مجموعة متناغمة من المهرجين في سيرك كبير؟ حسناً هذا نراه كثيراً، في حكومات وبرلمانات. التشبيه ليس دقيقاً. لكنهم كانوا حقاً مضحكين. يتعثرون ببعضهم البعض، كالسكارى، وكالسكارى يسهون مذهولين عما يدور حولهم، والسكارى ينوحون حيناً ويضحكون حيناً آخر، ويتساقطون أرضاً.. وهكذا، في إبداع متصل لا ينتهي. لقد كانوا مبدعين فعلاً، وهم يتلقون كل هذه الأهداف بصدور واسعة، اتساع مرماهم الذي بدا لوهلة، تكررت سبع مرات، أكبر من الملعب، وباتت عارضته، كما كل الطامحين في هذا العالم، حدودها السماء.

كانوا لطيفين وهم يعيدون اللعبة إلى معناها الأول الأصلي، مجرد لعبة للتسلية والفرح والتواصل الاجتماعي بين أبناء الحي، والقارات. أسقطوا الملل الذي اعتراها مؤخراً. غيروا مفهومها من حماسة انتظار الأهداف الى متعة عدّها، والوقوع في خطأ العدّ.

لن أصفها  بالمجزرة. هي أبعد من مجزرة حتماً، وأحلى من ملحمة. لنقل إنها، هي الآتية من أميركا اللاتينية، واحدة من روائع الواقعية السحرية الخالدة.

لنقل إن المعلم "غابو"، الحي دائماً، قرر أن يحكي عن أجمل 11 كناراً أصفر في العالم، أصابها حزن دفين بعدما أخذ الغمام شقيقها ذا العينين الخضراوين، ليجعل منه إله الطيور ذات الأجنحة المتكسرة. وقررت الطيور أن تنتحر بأحلى الطرق غرابة، كي تحفظ الذكرى الى الأبد. فذهبت إلى الحقل وقررت أن تصارع آلات الحصاد المجنونة التي خرجت إليهم جرارة لا يُرى ذيلها بالعيون المجردة، فكانت معركة غير متكافئة امتلأت فيها السماء بريش أصفر وبدموع نسوة راحت، كلما لمسها الهواء، تتحول إلى ماسات بلا وزن عالقة في الفضاء الملعون الى الأبد.

حسناً، يبدو أني بالغتُ. أنا أحاول التخفيف عنك فقط.

سألتزم بفكرتي الأصلية. منتخب البرازيل صنع للكوكب مرحاً لا يضاهيه مرح. مرح لم يشهده العالم منذ زمن بعيد، حتى إنه بدا، مع انطلاق صافرة النهاية، كأنه يهتز من الضحك (ومن رقص السامبا). والكوكب سيشكر البرازيل على هذه الليلة المرحة التي ضحك فيها من قلبه، وفجر نبعاً من النكات سيستمر بالتدفق لوقت طويل بعد نهاية كأس العالم. ولوقت طويل، سيظل ذكر هذه المباراة دافعاً لا إرادياً الى الابتسام.

لا تحزن يا صديقي، لا تحزن. بهذا الشكل من الانسحاق، بالاستسلام التام والنهائي والأخير، بإشهار الهزيمة والانصياع لإهاناتها بطيبة قلب وخاطر، فاز البرازيليون بكأس العالم، وإن كان عليهم رفعه مقلوباً. بعدما باتوا مهزومي العالم، سرقوا من البطل وهج الذهب ووهج البطولة. أطلقوا صافرة النهاية وكان لهم ما أرادوا، على أرضهم وبين جمهورهم. ولن ينسى أحد شباك مرماهم التي لم تتوقف عن الاهتزاز طول تسعين دقيقة. هذه الشباك الخصبة التي تجلب الخير، والتي إذا استمرت في جلب كل هذا الحظ، كان صيدها وفيراً، إذا ما استخدموها في صيد السمك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها