الثلاثاء 2024/03/19

آخر تحديث: 13:35 (بيروت)

المراسلات المكتوبة تفضحهم: جنود المصارف داخل الحكومة

الثلاثاء 2024/03/19
المراسلات المكتوبة تفضحهم: جنود المصارف داخل الحكومة
حفل مجلس الوزراء بمراسلات تتسابق على النهش من المال العام (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease

بعد أن نجح اللوبي المصرفي في عرقلة مسار مناقشة مشروع إعادة هيكلة القطاع في مجلس الوزراء، طُلب من الوزراء المعترضين على المشروع إبداء اعتراضتهم بمراسلات رسميّة. المراسلات الموقعة من السادة الوزراء، كشفت أن لجمعية المصارف جنودًا داخل الحكومة، من الذين يزايدون على أكثر المصرفيين تطرفًا، في الدفاع عن مصالح المساهمين في القطاع. المطلوب في حصيلة هذه المراسلات ليس تحسين القانون أو تقويمه، بل الإطاحة بالمشروع، والمضي بالمشروع البديل: إثقال الدولة بالإلتزامات الجديدة بعد تحويل الودائع من ديون على المصارف إلى ديون عامّة.

أمين سلام: على الدولة "إعادة تكوين" نصف الودائع
يمكن القول أنّ مراسلة الوزير أمين سلام مثّلت الوثيقة الأكثر إثارة دهشة، من بين ردود الوزراء، نظرًا لضحالتها التقنيّة، وسطحيّة وسذاجة بنودها، مقارنة بلقب موقّعها الذي يحمل صفة "وزير الاقتصاد والتجارة".

ومن غرائب الأمور أن تتفتّق مخيلة سلام على هذا "النهر" من الحلول البديلة (والسطحيّة جدًا) في هذه اللحظة فقط، في حين أن الوزير كان مسؤولًا عن المشاركة في وفد التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وفي فريق إعداد خطّة إعادة الهيكة التي ينتقدها. هل خجل سلام من طرح أفكاره أمام "كبار القوم" خلال المشاورات، فاختار دسّها كجزء من الرسائل التي تطيح بعمليّة إعادة هيكلة المصارف؟ مضمون المذكرة –وهي من صفحتين- يوحي بذلك.

في أولى سطور رسالته، يرى أمين سلام التالي: على الدولة أن تلتزم بإعادة تكوين نصف الودائع، المترتبة على النظام المصرفي. لماذا نصف الودائع، وليس 40% أو 60% منها؟ بموجب أي تدقيق أو تفنيد لمصدر خسائر القطاع المصرفي؟ بأي موجب أخلاقي أو قانوني، يريد وزير الاقتصاد أن يحوّل نصف الودائع إلى ديون على الدولة؟ لا تجيب مراسلة سلام، لكنّها تطالب أيضًا بأن يتحمّل مصرف لبنان، الذي تحمل ميزانيّته كل الخسائر التي نحار في أمر توزيعها، مسؤوليّة "إعادة تكوين" ربع الودائع أيضًا. وفي حسبة أمين سلام، التي يختصرها بسطرين ونصف، ستقتصر مسؤوليّة القطاع المصرفي على تسديد ربع الودائع فقط.

إذا ما تبعنا مقترح أمين سلام، ستلتزم الدولة اللبنانيّة -مع مصرفها المركزي- بإعادة تكوين نحو 68 مليار دولار من الودائع المصرفيّة، وهو ما يتجاوز بأكثر من 8 مليار دولار حجم خسائر القطاع المصرفي، التي تراكمت في تعاملته مع مصرف لبنان.

التبرير الوحيد الذي يقدّمه سلام، لتحميل الدولة إلتزامات يوازي حجمها 3.4 أضعاف حجم اقتصاد لبنان، هو أن الدولة يفترض أن تكون "المثال الصالح" لشعبها ببدء المساهمة في "تكوين الودائع". المثال الصالح إذاً، هو أن يتجاوز وزير الاقتصاد مبدأ المحاسبة والمساءلة، وضرورة البحث في مصدر الخسائر المصرفيّة، لينطلق إلى المطالبة بتحويل الودائع إلى ديون عامّة دفتريّة معلّقة في الهواء.

باستثناء هذه الفكرة، يعدد سلام بعض العناوين الفضفاضة في جمل سريعة لا يُفهم المراد منها عند الحديث عن إعادة هيكلة المصارف: تطوير الثروة النفطيّة، تطوير مرافق الدولة، تفعيل شبكة اجتماعيّة مستدامة، الدولة الحاضنة لأبنائها، خلق الأمل، وقف النزيف، لبنان جديد (؟)،...إلخ.

وثمّة من يدفعنا للسؤال: عن أي لبنان جديد يتحدّث أمين سلام هنا، بعد طرحه فكرة ستزيد ديون لبنان العامّة إلى ما يتجاوز خمسة أضعاف حجم الاقتصاد برمّته، بمجرّد إضافة الدين الجديد إلى الديون القائمة أساسًا؟ أي لبنان جديد سيولد مع وزراء يقاربون أزمة بضخامة الأزمة المصرفيّة اللبنانيّة، من خلال مراسلة سطحيّة من هذا النوع؟

وليد نصّار: أشركوا المصارف في صياغة المشروع
وزير السياحة وليد نصّار، حمل أولويّات جمعيّة المصارف في رسالته كما هي: على المصارف والهيئات الاقتصاديّة أن تدخل في لجنة مع مصرف لبنان والحكومة، لإعادة درس المشروع بأسره. والمبرّر، هو أنّ المصارف تمثّل المساهمين والمودعين (؟!)، ويمكنها أن تطرح بذلك "الحلول المنطقيّة المتوازنة والقابلة للتحقيق". هذه الجملة، تلخّص كل ما أراد نصّار قوله في المذكّرة المكونة من خمس صفحات، والتي يصعب أن يعثر فيها المرء على أرقام أو جداول تدفع للاعتقاد بأن كاتبها يبحث بالفعل عن حل منطقي.

سائر أجزاء المراسلة، تعترض على فكرة الطلب من أصحاب المصارف وأعضاء مجالس إدارتها إعادة فائض الأموال التي استفادوا منها منذ العام 2016، أي خلال فترة تراكم الخسائر المصرفيّة. ويبرّر نصّار اعتراضه بالقول أنّ الفكرة ستؤدّي "إلى إشكاليّات كبيرة لا تنتهي"، وأنه "لا يمكن العودة إلى الوراء ثماني سنوات" (لماذا "لا يمكن"؟ وما هي هذه "الإشكاليّات"؟!). وعلى أي حال، يجزم نصّار الحريص على "الحلول المنطقيّة" أن هذه الفكرة سوف تتضمّن "الكثير من الاستنسابيّة".

في النتيجة، الحل بالنسبة لنصار هو تبنّي طرح جمعيّة المصارف، الذي يلزم الدولة اللبنانيّة بتحمّل خسائر القطاع، وفقًا لفهم الجمعيّة لمضمون المادّة 113 من قانون النقد والتسليف، التي تتحدّث عن إلزام الدولة بإعادة رسملة المصرف المركزي. مع الإشارة إلى أنّ هذه المادّة تتحدّث عن خسائر سنويّة محدودة، تترتّب بعد تدقيق أعمال المصرف للسنة المنصرمة، وليس عن خسائر احتياليّة تراكمت على مدى عقود في تداولات المصارف مع مصرف لبنان.

عصام شرف الدين: لا حاجة لقانون إعادة الهيكلة
وزير المهجّرين عصام شرف الدين كان الأكثر صراحة في إشهار المطلوب من كل هذه المراسلات، بعدما أرفق كتابه بدراسة قانونيّة موجزة تقول التالي في مقدمتها: "تقتضي الإشارة إلى انتفاء الحاجة لأي قانون جديد يرمي إلى معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها وهيكلتها".

أمّا السبب، فهو أن "إعادة الهيكلة هو شأن داخلي مصرفي يتصل بحدود المؤسسة المصرفيّة". أمّا دور التدخّل الحكومي، فيقتصر على إعطاء المصارف "تحفيزات" لتشجيع "الانتهاء من عمليّات الدمج". إذاً، لماذا تتدخّل الدولة في علاقة المودع مع مصرفه، بدلًا من الاكتفاء بتحفيز المصارف على معالجة أزمتها؟ إذاً، المصارف بحاجة إلى حوافز (من المال العام؟)، لا معالجات. وبما أنّ المطلوب التملّص من إقرار مشروع قانون جديد لإعادة الهيكلة، فكل ما في المراسلة ينسف أركان مشروع القانون، بحجج ترمي إلى تكريس الوضع القانوني القائم.

الحلبي متضامن مع أصحاب المصارف
وزير التربية عباس الحلبي (المستشار القانوني في بنك بيروت البلاد العربيّة ش. م. ل.) تحفّظ في مراسلته على إخضاع المصارف لمهل غير معقولة في سبيل إعادة تمويلها، فهي تتحمّل خسائر "ليست ناتجة عنها" (؟)، والمطلوب –مجددًا- دعمها وليس معاقبتها. وبمشاعر التضامن نفسها مع القطاع، يستنكر الحلبي أن يسمح مشروع إعادة الهيكلة بتعيين مدراء مؤقتين لبعض المصارف، من دون استشارتها. وكذلك يرفض الحلبي إعطاء لجنة إعادة الهيكلة صلاحيّة اتخاذ القرارات بخصوص المصارف، من دون استشارة أصحاب المصارف أو مساهميها، كما يرفض إمكانية إلزام المصارف ببيع موجوداتها في الخارج للسداد للمودعين. وبشكل عام، لا يرى الحلبي في إعادة الهيكلة، بل وفي أي إجراء يمس بمصالح المصرفيين، سوى "ديكتاتوريّة حتميّة".

هكذا، وفي حين أن أبسط بديهيّات عمليات إعادة الهيكلة تفرض تحميل أسهم المصارف الشريحة الأولى من الخسائر، حفل مجلس الوزراء بمراسلات تتسابق على النهش من المال العام، وعلى تضخيم الديون العامّة، في سبيل تقليص مسؤوليّة المصارف عن خسائرها. وفي النتيجة، كان من الواضح أن المطلوب من كل هذه المراسلة عرقلة مشروع إعادة الهيكلة بأسره، للمضي بالمشروع الذي تطرحه جمعيّة المصارف منذ العام 2020: تحويل ودائعها إلى ديون على الدولة، ولو أدّى ذلك إلى إغراق الماليّة العامّة والاقتصاد المحلّي بأزمة لن تنتهي، وإن كانت النتيجة الإطاحة بأي فرصة لتحصيل الحد الأدنى من الحقوق للمودعين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها