يبحث الفوتوغرافيّ السوريّ نصوح زغلولة (مواليد دمشق 1958) عن صور أخرى لـ"الشّام" وعنها، مخالفاً بذلك صورها المعروفة والمتداولة. لا يبدأ التصوير عنده من حدث إخباري ساخن أو مادة شائعة. ليس الحدث، على عنفه المرعب وجلاله الثوري، بعد ربيع 2011، ما يصنع اهتمام "الراصد الحيادي" بل العكس، فالصورة تبدو في منأى عن تحويلها إلى حدث كغيرها، غير أن ذلك إذ يميزها يجعلنا متردّدين إزاءها!
لا تبدو الصور الثلاثون، بطبعات كبيرة الحجم والمعروضة في غاليري "آرت أون 56"، على علاقة مباشرة وعضوية مع الزلزال السوري، وفي المقابل لا نجد أثراً لمعالم سياحية أو أماكن مشهورة، دأب النظام السوري ومن يروّج له على إظهارها عن دمشق كما لوكانت تعيش في ماضٍ ورديّ بلا خدش. لسنا هنا في قصر العظم ولا في سوق الحميدية ولا الجامع الأموي، ولا على مشارف قلعة دمشق التي كانت سجناً، وهي الآن جزء من سجن كبير ومعتقل خانق يكتم أنفاس ملايين السوريين الذين عادوا إلى أضواء الشموع (نور)، أو اضطروا إلى البقاء في عتمات (ظلال) ما تبقى من بيوتهم.
تجوب العدسة دمشق (مختبئة) كما لو كانت تائهة وحرّة في آن واحد، مباحة ومتروكة، لامبالية وباقية. مع نصوح زغلولة وصوره المعلقة كتذكارات قديمة موحية، انتهى عهد الصورة النمطية؛ حيث يسعف كسلُ العين وتسرّعها نماذجَ متكلسة ومكررة ومجترة. لا شيء يتكرر هنا، بل على العكس يبدو الآني والقليل الباقي نبعاً رغم صمته وضآلة قيمته للوهلة الأولى؛ إنها متاحة كما لو كانت موهوبة ومهداة لمن يودّ المراقبة النزيهة والرفقة الطويلة والحنان الرؤوف.
يأخذ زغلولة أماكن مهملة أو شوارع خاوية، يلتقط الضوء وهو يدنو أو يبتعد أو يرتفع، يحمله على سند عموديّ أو يوسعه من خلال منحى أفقي. يتناول التصوير هنا، بالأسود والأبيض، المسير والتجول والرفقة، ربما أيضاً التوهان والعودة العنيدة والقرب النحتيّ مع أي لحظة تكتشف من خلالها القرب الحاضن والالتصاق الوجداني، حيث تتقشر طبقات المكان العتيقة أبنية وجدراناً، أزقة وشرفات. الطين، ألواح الخشب المغروسة في الجدران، حبال الغسيل، العربات القديمة، العتبات وواجهات البيوت، وكل ما يسندها وساكنيها تحلّ هنا كما لوكانت تسرد لحظات جرى دغْمُ بقائها مع لحظة استعادتها الوداعيّة المتأخرة. يتكثف الزمن التصويريّ عبر التقاط شحنة ماكثة في مكان باقٍ. الدليل في الصمت، والكلمة تتسلل عبر الضوء، والمحنة في الظل الأسود الثقيل.
تكمن أهمية هكذا صور في الوقت الحالي حيث تنكمش دمشق على نفسها مع قاطنيها في فعل حماية ذاتية مريرة، عبر إيلائها الصمت والفراغ قيمة كبيرة وأساسية. كأن لا حدث هنا حيث كل شيء حدث بالأمس القريب، ولا شيء غير الضوء الشفيف والظلال السوداء. لكن هذا التفريغ التوسيعيّ للمكان حيث العاصمة التي تأوي ملايين السوريين، مقيمين أو نازحين، يشي بمعنى البحث عن أحشاء المدينة وخباياها الضئيلة. يختار نصوح زغلولة الأصغر والأقل كي يدلنا إلى الأهم والأجمل. لا تمكن القيمة هنا في ما نعرفه من قبل، بل في ما نرصد اليوم. اللحظة الآنية تخلد لحظة أعمق وأكثر وضوحاً. مع ذلك يختار زغلولة ما هو دائم وعتيق ومستمر. الشوارع الضيقة والزقاق شبه المعتم، الجدران التي تكشف عنها غطاؤها الهشّ والشرفات التي تكاد تتهاوى، لكنها تبقى معلقة في لحظة متأرجحة بين قوة الظل الناعم وسطوة الضوء النبيل.
تأتي شعريّة هكذا صور من أناس كانوا هنا، لكننا لا نراهم، تأتي من أثر مرور الزمن على ما يجمع عابري السبيل والأطفال وربّات البيوت، فهنا كان طالب وهناك كانت محادثة سريعة. لكن لا أثر لأي كلام في الصور الجديدة، ولا تعليق، كما لو أن الكلمات تنفد أمام قوة المكان الذي يتلقى نظرات فاحصة وقرباً داكناً أليفاً ألفة الخراب واللوعة! خلال ست سنوات طويلة امتدت بين العامين 2006 حتى 2012 ، ثم في عامي 2013- 2014 راقب نصوح زغلولة المدينة من خلال عنصرين أساسيين هما الظل والنور ليخرج بـ30 صورة توثق للمكان من جهة الصمت والفراغ.
لا نجد أي أثر بشري في هذه الصور، غير أنها محملة بآثار ولمسات من كانوا بالمكان وكان المكان بهم. يبدو المكان هنا أكثر بقاءً وأقل تطلباً، إنه بمثابة البيت المفتوح للجميع. صمته علامة ريبة كما إنه علامة فضول. لا ندري إن كنا ندخل المدينة على هذا النحو المربك، أننا عبر الصورة نحنُّ إليها فقط فيما نحن نقيم في مكان آخر. ينتظر نصوح زغلولة الفصول والأشهر واحداً تلو الآخر، ويرصد الضوء على الشقوق والزوايا حيث الأشياء تفتح عيونها نحونا كما لو كانت تتكلم بدلاً عنا. دمشق هنا مفتوحة ومشرَّحة من الداخل، كما لو أنك تنظر من داخل الجرح الصامت، لا أثر للدم عليه، ولا حيز للصرخة المخنوقة! غير أن الفضاء المادي لهذه الصور يبقى الحاضن السري لكل شيء. تبدو الصور حيادية من جهة، وحميمة من جهة مقابلة. يبحث نصوح زغلولة عن علاقة توثيقية شبه مستحيلة مع دمشق – المكان إذ لا يمكن جمع القرب اللصيق إلى الحياد الصافي في وحدة منسجمة دائماً، ولا يمكن النظر إلى المكان من وجهة توثيقية خالصة لا يشوبها أي شأن آخر. غير أن انعدام الرابط المباشر هنا، لا ينفي العلاقة الصبورة والصحبة العاطفية مع مكان أقرب إلى ألا يبقى منه شيء غير الركام والندم؛ حيث تحل الصور/الأغنيات البيضاء والسوداء في وقت لا يصغي فيه أحد إلى أحد.
* نال نصوح زغلولة ماجستير الاتصالات الفوتوغرافية والبصرية عن المدرسة الوطنية للفنون - باريس 1987. ساهم في تصوير 20 فيلماً والتقط أكثر من 80 ألف صورة، ولم تعرض أعماله في سوريا إلا العام 2007. يعتبر واحداً من أبرع المصورين الفوتوغرافيين المعاصرين. معرضه الأخير "صمتٌ في دمشق"، في Art on 56Th، بيروت، حتى 21 حزيران/يونيو الجاري.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث