يرأس المجلس العلميّ للمعجم الدكتور رمزي بعلبكي أستاذ كرسي الدراسات العربيّة، الجامعة الأميركيّة في بيروت، من ضمن كوكبة من خيرة المعجميّين العرب يجتمعون دوريًّا في الدوحة لبحث القضايا العلميّة المتّصلة بالمعجم.
ويقول الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث لـ"المدن" لدى سؤاله عن الهدف من معجم الدوحة اللغوي التاريخي، في زمن بات هناك دكتاتورية لغوية تفرضها العولمة ونسقها: "أي لغة عريقة وحية في آن معا تحتاج إلى معجم تاريخي. والسبب بسيط، ويعود إلى أن معاني الكلمات ودلالاتها تتغير عبر التاريخ. والناس تقرأ التاريخ والنصوص بدلالات الكلمات اليوم، وليس بدلالات الكلمات في مرحلتها. كما أن معرفة تاريخ اللفظ ودلالاته وتطوره واستمراره (أو انقراضه) يفيد كثيرا في معرفة تطور الأمم، ويمكّن من اشتقاقات لفظية تساهم في مجاراة الحياة العصرية والعلوم واكتشاف تعابير واستخدامات في زمن نهضة العلوم والترجمات. المعجم التاريخي هو حفريات حقيقية في تاريخ الالفاظ ودلالاتها في سياقاتها تمكن من مجاراة الحياة المعاصرة بالاستناد إلى تاريخ عريق يفتح المعجم أبوابه بدليل علمي لفهم اللغة كثقافة ولمعرفة معاني النصوص عند صدورها. وقد جرت محاولات كثيرة من قبل عرب ومستشرقين فشلت كلها في بداياتها لأن المشروع ضخم ويحتاج إلى تضافر جهود وتنسيقها والاعتماد على التقنيات الحديثة في جمع الالفاظ وترتيبها ومتابعة تاريخها عبر النصوص. المعجم التاريخي قائم بالانكليزية والفرنسية والفارسية. وتخيل أن تأليف معجم تاريخي للغة العبرية مستمر من خمسينيات القرن الماضي ولم يفرغ من تأليفه بعد. أما اللغة العربية فلم يؤلّف لها معجم تاريخي، مع أنها لغة عمرها ما يقارب الألفي عام، وهي لغة حية يستخدمها مئات الملايين من البشر".
وينفي بشارة أن يكون معجم الدوحة بديلا عن مهمّات مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وغيرهما، قائلا: نحن نرغب بالتعاون مع الجميع. ولكننا نقوم بمشروع عملي له مواصفات واضحة. وقد قررنا أنه لا يجوز الانتظار أكثر والبدء بالمشروع، واتصلنا مع نخبة ممتازة من أبرز العلماء من البلدان العربية كافة لتشكيل المجلس العلمي للمعجم الذي يعقد جلساته بشكل منتظم. وبدأ عشرات الباحثين المتخصصين باللغة والحوسبة وغيرها، في العمل المتفرغ في المعجم هنا في المركز العربي للأبحاث، وينضم إليهم بالتدريج مئات الباحثين في عمل جزئي إذ يساهمون في العمل على المعجم من بلدانهم، ويقود العمل كله ويديره إدارة تنفيذية في مؤسسة المعجم في المركز العربي للأبحاث. نحن نقوم بمشروع نهضوي عربي فعلي، وليس نظرياً فحسب. وحرصنا على أن يكون المشروع جهداً جماعياً عربيّاً. وكما قال لي أحد علماء اللغة العربية الذي يرى حلما قيد التحقيق "أنتم تقومون بتنفيذ مشروع أمة". والحقيقة أن العديد من علماء العربية في المشرق والمغرب يعتبرونه حلماً.
ويضيف بشارة "ان فكرة المشروع قائمة منذ جيلين. نحن لم نخترعها بل أقدمنا على تنفيذها، إذ توفرت الجرأة والرؤية، وقد وفر المركز الوسائل وطرق الإدارة الناجعة لتنفيذها. وقد زارني الدكتور رمزي بعلبكي في مكتبي في المركز قبل أربعة أعوام تقريبا برفقة باحثين هما رشيد بلحبيب ومحمد العبيدي اللذين رتبا هذا الموعد، وكانا يعملان اساتذين في جامعة قطر وكانا متحمسين للمشروع، وانضم إليهم الدكتورعز الدين البوشيخي، وطرحوا فكرة المشروع. وكان الدكتور بعلبكي قلقاً جداً من تعثر اقتراحات ومشاريع لم يتمّ إنجازها حتى الان، ويخشى أن الزمن يمر ولا توجد بوادر عملية لإنجاح مشروع كهذا. وكان يعرف عن جهود مركز الأبحاث، ومطلعاً كما يبدو على أهدافه وعلى ما اقوم به. ودرست الموضوع وبقيت على تواصل مع الدكتور رمزي. ثم تواصلت بعد حين مع الشيخ تميم بن حمد الذي كان ولي عهد دولة قطر، وأصبح أميرا في هذه الأثناء، فأيد الفكرة وأعرب عن استعداده لدعمها، وطبعا لم يكن تنفيذها ممكنا بدون هذا الدعم المثابر والمتواصل، فهذا مشروع لا ينتهي في عام أو عامين. وانطلق المشروع وأصبح رمزي بعلبكي وهو من أهم علماء العربية المعاصرين على المستوى الدولي، رئيساً للمجلس العلمي، وثمة إجماع عليه في المجلس. وأصبح الاساتذة عز الدين البوشيخي ورشيد بلحبيب ومحمد العبيدي إدارة تنفيذية. واجرينا اتصالات بعلماء اللغة العربية مثل عبد السلام المسدي وحسن حمزة وابرهيم بن مراد وغيرهم الذين تحمسوا للمشروع وبدأنا على الفور بإعداد البنية التحتية التقنية والإدارية وتجميع المدونة اللغوية العربية. وأعتقد ان مشروع المعجم قد وضع الآن على السكة وانطلق.
وبمناسبة البدء بمشروع معجم الدوحة اللغوي التاريخي، كان لـ"المدن" هذا اللقاء مع الدكتور رمزي بعلبكي...
كيف نشأت فكرة معجم الدوحة التاريخيّ للّغة العربيّة؟
لقد كنتُ في زيارة للمركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات في العام 2011 والتقيتُ بمديره العامّ الدكتور عزمي بشارة، وكنت على اطّلاع على نشاطات المركز وتطلّعه إلى تبنّي مشاريع ثقافيّة على مستوى الأمّة. ولما طرحتُ على الدكتور عزمي فكرة المعجم التاريخيّ للّغة العربيّة صادفت عنده قبولاً وحماسًا. وإثر ذلك عُقدت اجتماعات وندوات تداول فيها عدد من اللغويّين والمعجميّين في هذا المشروع وتقدّموا بخطّة عمل إلى الدكتور عزمي، فعرضها بدوره على الجهات الرسميّة فتبنّتها وتعهّدت بتمويلها. وهكذا نشأت هذه المؤسّسة التي اسمها معجم الدوحة التاريخيّ للّغة العربيّة والتي أُطلقت رسميًّا في أيّار/مايو 2013، وهي الآن جزء أساسيّ من معهد الدوحة للدراسات العليا.
تتحدثّون عن مؤسّسة معجم الدوحة، فما هي أهدافها تحديدًا؟
الهدف الأوّل للمؤسّسة هو إنجاز معجم تاريخيّ للّغة العربيّة، وذلك هدف يتطلّب سنين طويلة من العمل الشاقّ، لأنه ينطلق من بناء مدوَّنة لغويّة عربيّة شاملة تُستخرج منها المفردات وتُرصد معانيها وتوثَّق شواهدها. وإلى ذلك تسعى هذه المؤسّسة إلى إصدار دراسات وأبحاث تتعلّق بالمعجم العربيّ وإلى عقد ندوات متخصّصة في هذا الحقل، علاوةً على أن الدراسات المعجميّة سوف تكون رافدًا مهمًّا لطلاّب العلوم الاجتماعيّة في معهد الدوحة العالي للدراسات العليا.
هل لك أن تشرح الفرق بين المعجم التاريخيّ وسواه من المعاجم؟
يتميّز المعجم التاريخيّ عن سائر المعاجم — كالمعجم اللغويّ العاديّ والمعجم الموسوعي— بأنه يتتبّع المفردات أو الوحدات المعجميّة في تطوّرها عبر التاريخ، أي أنه يتضمّن "ذاكرة" كل لفظة عربيّة فيرصد ظهورها للمرة الأولى محدِّدًا سنة استخدامها على وجه الضبط أو التقريب، ويعيّن دلالتها ثم يتتبّع التغيّرات الدلاليّة التي طرأت عليها حتى عصرنا هذا، ويوثّق كلّ معنى بإيراد شاهد له من التراث العربيّ منذ أقدم العصور حتى اليوم. أما المدوَّنة التي يعتمدها معجم الدوحة التاريخيّ للّغة العربيّة فتشتمل على جميع النصوص العربيّة الفصيحة المكتوبة، أي أنها مدوَّنة شاملة واستيعابيّة وليست انتقائيّة، ويدخل فيها أيضا النقوش والبرديّات العربيّة.
وكيف يتمّ إعداد هذه المدوَّنة؟
لقد قرّر المجلس العلميّ لمعجم الدوحة التاريخيّ أن يعتمد المرحليّة في إنجاز العمل، فقسم تاريخ العربيّة إلى مراحل تبدأ أُولاها منذ أقدم العصور حتى العام 200 للهجرة، وتمتدّ ثانيتها من العام 201 حتى العام 500 للهجرة، وهكذا. هذا التقسيم يسعف في ضبط مراحل العمل على أن تتكامل هذه المراحل عند إنجاز المشروع برمّته. ولا يخفى أن كل مرحلة لها خصوصيّتها ومستلزماتها، ففي المرحلة الأولى نواجه بالدرجة الأولى صعوبة توثيق المادّة، ولذلك قامت لجان متخصّصة بتوثيق نسبة المؤلَّفات إلى أصحابها، ونسبة أبيات الشعر إلى قائليها ما أمكن، وهذا يتطلّب جهدًا جماعيًّا كبيرًا قطعنا في إنجازه مرحلة لا يُستهان بها. أما المرحلة الثانية فقد شهدت "انفجارًا" معرفيًّا وزيادة كبيرة في المؤلَّفات في شتّى أنواع العلوم، كاللغة والنحو والأدب والنقد والتفسير والتاريخ والجغرافيا والطبّ والصيدلة والرياضيّات والفلك وغيرها. وقد سعينا لحصر مؤلّفات كل ضرب منها في تلك الفترة وعقدنا في تونس عام 2014 مؤتمرًا مخصَّصًا لهذا الغرض، قدّم فيه فريق من المختصّين قوائم شاملة بتلك المؤلَّفات، كلٌّ بحسب اختصاصه، لتكون أساسًا تُستخرج منه مدوَّنة شاملة لتلك الفترة.
بصفتك رئيسًا للمجلس العلميّ، ما هي مهمّات هذا المجلس؟
يتكوّن المجلس من كوكبة من خيرة المعجميّين العرب يجتمعون دوريًّا في الدوحة لبحث القضايا العلميّة المتّصلة بالمعجم، كبيبليوغرافيا المدوَّنة والدليل المعياريّ لقواعد تحرير المداخل المعجميّة. وهناك تعاون وثيق بين المجلس العلميّ والهيئة التنفيذيّة العاملة في الدوحة، ويرأسها الدكتور عزّ الدين البوشيخي. وتتابع هذه الهيئة مراحل إنجاز المعجم وتشرف على عمل الدوائر المتخصّصة بالمعالجة المعجميّة، وذلك وفقًا لشبكة إلكترونيّة يستخدمها اللغويّون والحاسوبيّون المتخصّصون العاملون في الدوحة كما يستخدمها سائر زملائهم في اللجان المختصّة العاملة في عدد من المراكز العربيّة التابعة للمعجم، كالقاهرة وعمّان وفلسطين وتونس والرباط.
ومتى تتوقّعون إنجاز هذا المشروع الضخم؟
إن إنجاز معجم تاريخيّ لأيّ لغة أمر بالغ التعقيد ويحتاج إلى جهد جماعيّ مُضْنٍ وطويل الأمد. وممّا يوضح هذا الأمر أن العمل على معجم أوكسفورد التاريخي بدأ عام 1857 ولم تظهر طبعته الورقيّة الأولى إلا سنة 1928 في عشرة أجزاء، ثم صدرت طبعته الثانية في عشرين جزءًا في العام 1989، ثم توالت طبعاته الإلكترونيّة. وعلينا أن نتذكّر مدى اتّساع اللغة العربيّة وكثرة مفرداتها وتنوّع دلالات تلك المفردات لندرك مدى ضخامة العمل، حتى إن محاولات سابقة لإنجازه في العالم العربيّ لم تأتِ حتى اليوم بالنتيجة المرجوّة. وعلى أية حال، تقضي خطّة المعجم بأن يُنْجَز العمل على مراحل قد يُنشر بعضها إلكترونيّاً بالتتابع عند تمامه. ومن المقدَّر أن يتمّ إنجاز المشروع برمّته في حوالي خمسة عشر عاما منذ إطلاقه، أي ابتداءً من العام 2013. ولا ريب أن "الثورة" الإلكترونيّة التي شهدناها في السنوات الأخيرة سهّلت العمل كثيرًا — وإن تكن قد أنتجت تعقيدات أخرى لا مجال لذكرها الآن. المهمّ أن العمل سوف يُنشر إلكترونيًّا في مراحله المختلفة لأن التطوير والتصويب والزيادة من الأمور الضروريّة دائمًا في المعجم التاريخيّ. ومن المؤمَّل أن يُسهم المثقّفون والقرّاء في تزويد القيّمين على المعجم بملاحظاتهم كما يحصل في المعاجم التاريخيّة الأخرى، لأن اللغة كائن حيّ متطوّر ولأن العربيّة تحديدًا شديدة الاتّساع كما أن كثيرًا من مخطوطاتها ما زال غير منشور وقد تكون فيه مفردات ودلالات يتعيّن استدراكها في حينه.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها