الثلاثاء 2024/04/23

آخر تحديث: 14:02 (بيروت)

أم درمان ورام الله...لم يعد الوطن يخيّم في الأغاني

الثلاثاء 2024/04/23
أم درمان ورام الله...لم يعد الوطن يخيّم في الأغاني
increase حجم الخط decrease
قبل مدة توفي أحد أقرباء الروائي السوداني حمور زيادة، المقيم حاليًا في القاهرة، فأقام له عزاءً يتسع لحضور بعض أهله الموجودين رفقته في العاصمة المصرية، لكنه فوجئ أن ما سبق وظنه فُسْحَةً تُفاقم إحساسهم بالغربة، قد ضاقت بمن وفدوا يواسونه في مصابه، فقال: "لم أعرف ساعتها هل أشعر بالسعادة لأني لست وحيدًا هنا، أم أحزن لأننا بتنا جميعًا في الغربة".
وكلما جاء دوره في الحديث خلال جلسة جمعته بالروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله، مساء الأحد، كان صاحب "سيرة أم درمانية"، يحرص على الإشارة إلى نفسه وأبناء بلده بأنهم "الوافدون الجدد إلى الهاوية"، كأن جزءاً منه ما زال يستنكر أن يلقى وطنه السودان ما يلقاه من دمار يومي وتشريد زاد عن السنة.

مدن تعجز عن الحديث
لم تكن الغربة أو الإبعاد عن الوطن، موضوع الجلسة التي استضافت ابراهيم نصر الله وحمور زيادة، وحملت عنوان "القاهرة تحكي مدنًا.. أم درمان ورام الله تتحدثان"، ضمن فعاليات "مهرجان التحرير الأدبي" الذي تستضيفه الجامعة الأميركية بالقاهرة. بيد أن المدينتين صارتا عاجزتين عن الكلام بعد ما أصابهما من خراب، أو بلفظ صاحب "زيتون الشوارع": "أنا من القدس، قرية اسمها البريج، لم أرها من قبل، هي الآن ثكنة عسكرية، وصار من الصعب عليَّ الوصول حتى إلى دمارها".

يؤمن نصر الله الذي يعيش حاليًا في الأردن، أن الإبعاد عن الأرض هو ما حفز لديه الكتابة من الأساس، ويعود إلى تجربته الأدبية الأولى؛ ديوان "الخيول على مشارف المدينة" الذي استعاد خلاله تجربته مع الأماكن، يقول:" القنفلة (قرية في المملكة العربية السعودية اغترب فيها كمدرس)، التي عشت فيها سنتين فقط، وكذلك المخيم، هما أكثر مكانين أثرا في وجداني، وللمفارق لم يكونا مدينتين".

ويضيف: "القنفلة قرية صغيرة جدًا، كانت قفراً لما زرتها، صحراء لا شيء فيها، ولا يزيد تعدادها عن 200 فرد. أما المخيم، فبعض سواتر من القماش، واجتمع فيه المرض والغربة والبطالة وانعدام كل سبل الحياة الإنسانية، ذلك المخيم الصغير بالنسبة إلي، كان فلسطين، كل فلسطين".


وعلى عكس نصر الله الذي ولد بعد النكبة بست سنوات، ولم يبصر الأرض التي عاشت فيها عائلته، فارق حمور زيادة السودان، بعدما أدرك الثلاثين من عمره، نحو منفى اختياري دام عشر سنوات، قبل أن تقوم الثورة التي خلعت الرئيس عمر البشير. لذا، يعيش يومه، حسب قوله، يحاول تذكر المدينة وروائحها في أوراق ربما يستطيع لاحقًا أن يجمعها معًا فيكتب تغريبة سودانية، يقول: "صحيح أنني الآن آمن، لكنني بت مطرودًا ومحبوسا في الخارج، لست في بلدي، الغريب أنني عندما جئت القاهرة (نحو العام 2008) في منفى سياسي اختياري، ومكثت فيها نحو 10 سنوات، كان الأمر أهون كثيرًا علي من الآن، من تلك السنة التي أعيشها حاليا منذ اندلاع الحرب".

يقول محمود درويش: "وطني حقيبة/ وحقيبتي وطن الغجر/ شعب يخيم/ في الأغاني والدخان/ شعب يفتش عن مكان/ بين الشظايا والمطر"، لكن حمور زيادة الذي يخشى أن يكون مصيره الغربة الأبدية، يؤكد في الوقت نفسه "مدينتي لم تعد قائمة هناك، ولا أعرف إن كنت سأعود إلى أم درمان أم لا".

الوطن ليس حقيبة أو أغنية
يرى صاحب "الغرق" أن سلواه الوحيدة في هذه الغربة هي أن يظل يكتب عن مدينته: "أشعر بأنني أريد أن أجعل هذه المدينة حية إلى آخر لحظة تقرأ فيها كتاباتي"، فهو يؤمن أن الكتابة عن الوطن مصدرها دائمًا الحنين إليه. ويدلل إلى الطيب صالح، الذي فسر أدبه كله بأنه كان نتاجًا عن ذلك الشعور: "ربما يكون ذلك الحنين هو ما يجعلنا نقاوم"، مضيفًا:" كنت مرة أزور رام الله، وأصابتني وعكة فحملوني إلى السيارة، وبينما أحاول الراحة، سمعت أحدهم يغني أغنية سودانية، فظننتها تخاريف المرض، فوجدت الصوت يكرر الأغنية، فرفعت رأسي لأرى إبراهيم نصر الله هو من يغنيها. ربما يأتي الوطن في أغنية يغنيها شخص آخر هو ليس من ذلك الوطن".

ويتفق صاحب "شمس اليوم الثامن" مع حمور، قائلًا إن "الفلسطيني ليس بحاجة إلى من يشجعه للعودة على وطنه، اكتشفنا إنه حيثما ذهب فإن الوطن معه وبداخله، بالعكس يجد كل العالم يقول له لا تعُد إلى ذلك الوطن، وفي الوقت نفسه يمنعك من أن تعيش على أرضه، لكن الفلسطيني لم يتوقف يومًا عن محاولة العودة منذ النكبة".

ويضيف نصر الله الذي يرى أن ما يجري في فلسطين الآن "اختبار يومي لضمير العالم"، أن هناك "شيئاً استثنائياً أن يقاوم شعب مئة عام ويظل مصرًا. حينما تسمع طفلاً أو طفلة تحس أنه يقول كلاما أحسن من أكبر المفكرين، هذا الوعي الاستثنائي بالوطن والبقاء فيه والإدراك أنه ليس له غير وطنه، كل هذا الوعي الذي تأسس على المدى الطويل هو شكل من أشكال العودة إلى الوطن".

العيش للأبد
في العام 2017، أصدر إبراهيم نصر الله ديوان "مرايا الملائكة"، الذي كتبه إهداء للشهيدة إيمان حجو، التي لقيت حتفها إثر قذيفة إسرائيلية وهي ما زالت رضيعة ابنة أربع شهور، ويقول صاحب "عودة الياسمين إلى أهله"، إنه بعد صدور الديوان أخبرته أمها "الآن لن يستطيعوا قتل إيمان مرة أخرى". لذلك يؤكد أنه "حين تكتب عن إنسان يجب أن تكتب عنه بجودة تجعلهم لا يقتلونه مرة أخرى، وحين تكتب عن مكان عليك أن تكتب عنه بجودة لا تتيح لهم تدميره مرة أخرى".

ويضيف صاحب "طفل الممحاة": "إن محو اسم فلسطين كان التمهيد الأول لمحوها، فعل الصهاينة مثل ما فعلته أميركا عندما سمّت القارة المكتشفة حديثًا العالم الجديد، ثم يأتي تاليًا ما يجري حاليًا من مرحلة محو البشر لجعلهم أقلية. حينما كانوا يصفون الفلسطينيين كانوا يسمونهم العرب، يريدون إقصاءهم، كأنما يقولون هم عرب، والعرب لهم بلاد أخرى، كانوا دائماً يصورون الأماكن الفلسطينية خالية من السكان، ولذلك تأتي الكتابة وفعلها على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة، فأنت عملياً تعيد بالكتاب بناء مدنك من جديد، وحين تكتب عنها عليك أن تكتب بصورة جيدة وهذه مسؤولية كبرى".

الندوة التي استمرت قرابة الساعة، لم تسمح لترجمة همهمات الجمهور بتعليقاتهم على ما يثيره حديث المنصة من أسئلة، نظرًا لضيق وقت برنامج المهرجان الذي ينظم ثلاث ندوات يوميًا. لكن من بين الجالسين، تساءلت صحافية: "لماذا نحن هنا؟ وماذا يفعل الكاتب لمن يقتل يوميًا، أحد الذين كنت اتحدث إليهم في غزة أصيب بينما هو على التلفون معي"... ورغم أن حديثها لم يتعدّ الصف الذي كانت تجلس فيه بعيدًا من المسرح، فإن حمور زيادة، ابتدأ مداخلته التالية على نصر الله، قائلًا: "نحن لا نحسن حمل السلاح، ولا يليق بنا أن ندعو للقتل، بالتالي نحن على الهامش، والشيء الوحيد الذي يمكن أن نفعله هو أن نستمر في الكتابة".

ويضيف: "قبل أيام شاهدت مشهد فيلم تيتانك الشهير، والفرقة الموسيقية تلتزم بالعزف رغم غرق السفينة، في الماضي كنت أسخر منهم، لكني أراهم الآن حريصين على تقديم تغريدتهم الأخيرة، ماذا يملك هؤلاء الفنانون غير فنهم، ليس عليهم إلا أن يزفوا إلى البحر موتاهم. الحقيقة أنه لا يمكن التوقف عن الفن، ولا يمكن للبشرية أن تستغني عنه، ما نقدمه ضروري في النهاية، لا نستطيع أن نحيا إلا من خلاله".

بدوره قال نصر الله، إن "الشهيد ليس فقط هو القصيدة، إنه العالم متكاملاً". واختتم: "رغم ذلك، لا شيء يعوضنا عن الوطن، أنا شخصيًا كلي نقصان، كل هذه الكتابة هي محاولة لبناء الوطن في داخلي".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها