الإثنين 2024/04/22

آخر تحديث: 19:47 (بيروت)

سينما كريستال الزائلة... نجيب محفوظ وعمّال ورثاثة

الإثنين 2024/04/22
سينما كريستال الزائلة... نجيب محفوظ وعمّال ورثاثة
احتفال العمال بأول أيار 1925 في سينما الكريستال
increase حجم الخط decrease
القراءة أحياناً فعل متاهة، بعد أن تكون فعل معرفة ومتعة وسفر. وصادف أن قرأت نصاً  منسوباً للناقد اللبناني جوزف طرّاب، عن أسواق بيروت القديمة ومعالمها وناسها ولغاتها وطوائفها، وكردها وأرمنها وسورييها ويهودها. البارز في المقال، عدا عن رسمه خريطة سوسيولوجية لمدينة كوزمبولوتية ذهبت إلى الزوال، ما كتبه عن سينما "كريستال"، قائلاً: "أما بالنسبة لصالة سينما كريستال، فأن أهلنا كانوا يحذروننا من ارتيادها لأن روادها ليسوا من المعروفين بأخلاقهم الرفيعة، بل هم من سقط الرجال والفتيان". ويضيف: "وقد قرأت يوماً أن نجيب محفوظ استقى روايته اللص والكلاب، من حادثة حقيقية لأحد المصريين ممن ترعرعوا في فترة مراهقتهم في بيروت ضمن محيط سينما كريستال ثم عاد إلى بلده الأصلي وتحول مجرماً"...

هكذا توصيف يجعل المكان نقطة جذب لتبيان الحكاية. هل فعلاً كانت الصالة على هذا النحو؟ وما الذي يجعل الأهل يشيطنون صالة من الصالات؟ الرثاثة لها حكاية... والمفارقة أنه من بعد البحث والتدقيق بل والصدفة، تبين أن المقال المذكور أعلاه ليس لجوزف طرّاب، بل للكاتب المسرحي أسامة العارف، كتبه عن طرّاب ونشره في كتابه "هات العمر من الأول"(دار الفارابي)، وهذا من كوارث الانترنت وشتات الملكية الفكرية، واختلاط الحابل بالنابل.

المهم القول أن ذِكر نجيب محفوظ في ما كتبه أسامة العارف يثير الفضول أيضاً، خصوصاً أنه يكتب غالباً عن "حواديت" القاهرة وحاراتها. ومن خلال البحث، تبين أن محفوظ في "اللص والكلاب" بقي ضمن "حواديت مصر"، رغم أن لبنان كانت له حصته القصيرة. قال محفوظ في أكثر من مناسبة إن رواية "اللص والكلاب" عن قصة حقيقة وهي سفاح الإسكندرية، يدعى محمود أمين سليمان، وقد ذاعت قصته في مصر الخمسينيات. وكتب محفوظ "اللص والكلاب" سنة 1961، وتدور الرواية حول سعيد مهران، الخارج بعد أربعة أعوام من السجن، بسبب ارتكاب سرقة، بينما كانت زوجته نبوية قد تركته لتتزوج صديقه وتابعه السابق "عليش سدرة"، ويتوجه سعيد إلى بيت عليش ليطلب رؤية ابنته "سناء" التي أنكرته، وكذلك تنكر له الزوجان فأخذ بعض الكتب وخرج من البيت وقد صمم على قتل الإثنين ومن هنا تبدأ الأحداث.


وقد أخذ محفوظ من القصة ما يمكن أن يتحول لعمل أدبي، فأخذ "التيمة" والشخصيات وبنى لها مساراً مختلفاً في بعض مراحل البناء الدرامي، بأسماء برع في اختيارها لتعلق فى أذهان الناس. وتنقل الصحف المصرية أن محمود أمين سليمان مصري، ولد في طرابلس(لبنان)، بدأ السرقة باكراً في سن السابعة، كان يسرق الجيران، فتعاقبه الأم كل مرة وتطلب منه أن يعيد ما سرقه، ولكن الأب كان يعنفها لقيامها بضرب الولد، وكان ذلك بمثابة طمأنة للطفل بأن ما يفعله لا يحتاج لعقاب.

سنوات من الشقاوة قادت محمود إلى تشكيل عصابة في لبنان وقُبض عليه ورُحّل إلى مصر. بعد استقراره في الإسكندرية، اتجه لسرقة الأثرياء، واستطاع أن يجمع مبلغاً كبيراً افتتح به داراً للطباعة والنشر وتزوج من نوال عبدالرؤوف، ثم عاد للسرقة مرة أخرى. تحدثت الصحف عن ذهاب محمود لسرقة فيلا أم كلثوم، وهي المحاولة التي انتهت بالفشل حيث ضُبط من قبل الحراس واقتادوه إلى قسم الشرطة...الخ.

هذه قصة محفوظ الشائكة.. أما مسرح الكريستال، فجاء في كتاب "يا فؤادي" لمحمد سويد(دار النهار): "السّيدة جانيت، مجهولة باقي الهوية، امتلكت مسرح الكريستال الواقع بين بوابتي كل من سوق الصاغة، والنورية. بفضل سليم كريدية، تحوّل المسرح الى سينما اعتباراً من العام 1923، وتميزت قاعة العرض باحتوائها على احدى وأربعين مقصورة فاخرة الصنع، إلى برامجها المعتادة من الأفلام الطويلة، تخصصت بأشرطة المسلسلات وحافظت على عراقتها المسرحية باستقبال مشاهير الخشبة المصرية، بينهم الفنان اللبناني الأصل أمين عطالله، صاحب شخصية كشكش بك. واستضافت الشاعر عمر الزعني 1923 الذي كان إختار لنفسه في سن الشباب مهنة المحاماة، فإلتحق بالجامعة اليسوعية في بيروت، لكنه طرد في اليوم الذي كان مقرّراً ليتقدّم فيه لإمتحان الحقوق، بسبب أغنيته "حاسب يا فرنك"، حيث تم حبسه في سجن الرمل من قبل سلطة الإنتداب دون محاكمة. وكانت هذه الأغنية، منتقداً فيه محاولة فرنسا إنقاذ عملتها المتدهورة آنذاك، ليتحول من ذاك التاريخ إلى محامٍ للشعب الذي منحه وكالته وثقته
وجاء في الأغنية:
حاسب يا فرنك، يا فرنك حاسب،
فهّمنا فين بعدك ساحب،
ما خلّيت لا مُحبّ ولا صاحب،
أهلك جفوك والأجانب:
فرحانين، شمتانين،
ناويين محوك، ما بناسب،
يا فرنك، دخلك حاسب..."

أيضاً يروي الناقد الراحل محمد دكروب في كتاب "جذور السنديانة الحمرا"، أن الصالة احتضنت في 1 أيار 1925 احتفال حزب الشعب اللبناني (لاحقاً الحزب الشيوعي) بعيد العمال. وقال الشاعر الياس أبو شبكة بهذه المناسبة:
لهَفي على وطنِ تُضامُ أُباتُهُ ويسود فيه النّذلُ باستبدادِهِ…
من يسترق قوما يعيشُ بمالهم فلتبصُق الدنيا على ألحادِهِ

واحتضنت الصالة العديد من الإحتفالات السياسية، فأقيمت فيها احتفالات "حزب النجادة" والثورة الجزائرية، ومهرجان العرب المناهض للحركة الصهيونية العالمية العام 1931، ومؤتمر التضامن مع ثورة عبد القادر الحسيني العام 1935، واحتفالات السفارة المصرية لمناسبة زواج الملك فاروق.

آخر تجديد خضعت له صالة "الكريستال" كان العام 1959، ليبدأ هبوط مستواها تدريجياً اعتباراً من نهاية الستينات حتى بداية الحرب التي حولت الصالة إلى الرثاثة والابتذال.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها