ما دفعني إلى كتابة هذه القصة، المهداة إلى ابنتي، هو الإبنة التي كنتُها أنا.
لا أدَّعي أني عشت طفولة تعيسة، لكنها لم تكن مثالية، ولم تكن على الأقل عادلة، مثلي مثل ملايين الأطفال الذين يولدون في الحروب والصراعات الدموية. كنت أوفر حظّاً ممن ولدوا عند خطوط التماس مثلًا، لكني كنت أقلّ حظًّا من آخرين ولدوا في مدن متحضِّرة تحظى بالرخاء، أو قرى هادئة تنعم بالسلام.
يبدو أني ولدتُ من دون الطبقة العليا من الجِلد، كما يقول الكاتب والرسام السويدي جون أوغست ستريندبرغ عن أصحاب الميول الفنِّية. كنت أتفاعل بتحسُّس زائد وبانفعال مفرط مع الأمور حولي. كانت الحياة ترعبني، وكنتُ أشعر أنها سجن كبير وهدفي سيكون أن أهرب منه. لم يكن المجهول يخيفني كما السجن.
لم أملك الجرأة أو القوّة على إخبار أحد. بل كان اقترابي من الآخرين مقرونًا بسوء الفهم. لم أشعر بأنَّ أحدًا سيفهمني، لأني لم أكن أفهم ما يجري في عقلي وقلبي. وشعرتُ أن كوني أنثى، يؤدي دورًا كبيرًا في ضعفي ووحدتي وتعثُّري. فقد حدثت أمور يومية كثيرة جعلتني أؤمن بهذا، في محيط الأسرة والمدرسة والبلدة...
وحين باشرتُ المضي خلف أحلامي أو بعضها – فكثير من أحلامي تلاشت مع الوقت – رأيت أنه يُتوقع مني أشياء لا أتقبَّل معظمها، مثل أن أكون البنت المطيعة التي تتحمَّل أخطاء الآخرين ووزر الأعراف المجحفة السائدة، العنزة الوفية للقطيع، أن أعمل في مهنة مريحة من دون مخاطر، وأجد لنفسي زوجًا يرعاني نبذِّر معًا الأطفال لنُفرح قلوب أهلنا ولنُسكت ألسنة غيرهم ممَّن قد يشكُّون في أهليتنا الاجتماعية إذا لم ننجب.
استطعتُ تحدِّي بعض هذه القوانين الاجتماعية. بعضها، لا كلّها. وكان هذا أصعب من التمرُّد الواضح أو الخضوع التامّ.
وبينما أنا أكابد عناء كبيرًا لتحقيق إنجاز هنا أو هناك، بقيَت جميعها منقوصة، لأني لم أبذل حياتي لأمر واحد هو الكتابة مثلًا، أو لأمر آخر هو الأمومة، وبينما كنت في إعياء شديد أتاني خبر حملي بتوأم.
صدمتُ نفسي وأنا أذرف تلك الدموع. بكيت بحُرقة. لا لأني أكره البنات، بل لأني خائفة عليهما، لأني لم أكن مؤهَّلة لتربيتهما والعناية بهما بالشكل اللائق، بما يضمن ألا تعانيا وألا تتألما. لم أستطع في الماضي التعامل مع أمِّي فكيف سأتعامل مع ابنتيّ؟ اثنتان دفعة واحدة! هكذا كنت أقول لنفسي وأنا أبكي.
مع الوقت، اعتبرت الأمر معركة جديدة أخوضها، رحلة نحو التحرُّر من أسر المعتقدات والمشاعر والرواسب الماضية.
وبدأتُ الرحلةُ متعثِّرة، إذ واجهت حالة الإنجاب المبكر بعد معاناة الحمل الخطير. وُلِدت البنتان خديجتين ضعيفتين لم تبلغا 2 كيلو. الأولى التي أخرجوها وقرَّبوها من شفتي لأقبّلها هي ألمى، والثانية لحقتها بعد خمس دقائق هي ليان.
قبل التعافي من الجرح القيصري، عرفت أن ليان خسرت وزنًا وأن هذا دليل خطير، لذا أعيدت إلى حضانة المستشفى.
وتجدَّدت نوبات البكاء والحزن والندم. اعتقدتُ أن القدر يعاقبني لأنني جبُنتُ وبكيتُ حين عرفت بجنس ما أحمل.
تخطينا كل هذا معًا. أنا وأسرتي. وبينما أراقب البنتين تكبران، فكَّرتُ أن أكتب لهما قصَّة تخبرهما عمَّا ينتظرهما في الحياة كي يتوقَّعا كلَّ شيء ويتعلَّما المثابرة وعدم الاستسلام.. وقد تأخَّرتا في الجلوس والنطق والمشي، لكن ليس إلى درجة مُقلقة. وحين خطَت ألمى أولى خطواتها، وبينما أنا أتلقاها بعد مشوارها المتعِب، وُلدت فكرة "قنديل ألمى".
كتبتُ مسودة النص في "سكتش بوك"، مع رسوم مبدئية، لأني قرَّرت أن يكون الكتاب شبه صامت، أي فيه كلام قليل. وعملتُ كثيرًا على المَشاهد وعلى بناء روح للشخصيات وتطوُّرها بين صفحة وأخرى.
مضت سنوات قبل أن أجد رسَّامًا يشبه النصَّ ويتفاعل معه كما يستحقُّ وكما أحلم، ودار نشر تتبنَّاه.
يسألونني لماذا ألمى، لا ليان. الحقَّ أنَّ "دار جامعة حمد بن خليفة للنشر" أصدرت كتابًا آخر بطلته اسمها ليان، لزميلتي ومترجمة "قنديل ألمى" غنوة يحيى، واسم الكتاب "وليمة ليان من 3 بلدان"، وبالتالي شعرت بأنَّ ليان لن تعتب عليَّ.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها