بمثل هذه المشاهد، يحاول الفيلم التعبير عما يريده معتمداً بشكل أساسي على الصورة السينمائية لا الكلمة المنطوقة، وخالقاً لنفسه إيقاعاً تأملياً هادئاً يرصد اليومي والعادي والاستثنائي في لحظات تظهر على الشاشة في زمنها الحقيقي، على غير ما اعتاد أغلب المشاهدين المصريين. الرتابة والعادية التي ربما تظهر عليها تلك المشاهد لا تنفصل عن إيقاع حياة بطلة الفيلم، إيمان، الشابة الثلاثينية التي تعمل في محل لبيع الحلويات في ضواحي القاهرة، ولم تعد تنتظر شيئاً من الحياة، بعد صدمتها في جفاف خصوبتها. إيمان لا تعرف جينيفر هويس، الهولندية التي تزوجت نفسها عام 2003، وفتحت بقرارها العلني باباً أمام الراغبات في تكرار الفعل كونه تعبيراً قوياً عن النزعة الفردية، ودعوة للآخرين لتحديد مسارهم، في الوقت الذي يتحتم على أغلب النساء، والبشر جميعاً، العيش وفقاً لقواعد اجتماعية تعسفية. لا تعرف إيمان شيئاً من هذا كله، لكنها ستصدم المتفرجين برد فعلها بعد إدراكها أن قطارات كثيرة قد تجاوزتها بالفعل.
لا يتسرّع حمّاد في تسيير فيلمه، بل يواظب على خلق حالة ودمج المتفرج في إيقاع الفيلم الخاص، ببطئه الذي يشبه بطء حياة شخصيته الرئيسية، وببلاغته التعبيرية في استغلال مثالي للصورة السينمائية على الطريقة القديمة التي تنحو إلى إضفاء الرمزية على كل ما يظهر على الشاشة من كائنات وموجودات. بهذه الطريقة، سيكون على المتفرج متابعة كادرات غنية بدلالاتها، مفتوحة التأويل حدّ الإرباك والتشوّش في بعض الأحيان، يرافقها شريط صوت يستفيد من بيئة الأحداث ولا يستخدم الموسيقى سوى في التترات الختامية. الأشجار الخضراء والأخرى الجافة التي ستعبرها إيمان في مشاوير التعب اليومي، ستكون حاضرة لخدمة حكاية نضارة تجف قبل أوانها. كذلك، النباتات، وفي مقدمتها الصبَّار، التي تعتني بها إيمان في شرفة شقتها والتي نراها أغلب الوقت من وراء حاجز زجاجي. القطارات التي تظهر في امتداد الفيلم وتعبر إلى ما لا تعرفه إيمان، بينما هي اختارت تربية سلحفاة في غرفتها. ثم هناك الجسر الذي ستقف فوقه إيمان في منتصف الفيلم تقريباً، سيخبرنا هو أيضاً حكاية تخصّ تلك اللحظات المكثّفة التي قضتها البطلة فوقه لتفكر في حياتها.
"أخضر يابس" تجربة سينمائية مميزة خاض صانعوها كثيراً من الصعاب لإنجازها وخروجها بالشكل الذي يرضون عنه. ورغم وفرة التقدير العالمي والنقدي الذي حازه الفيلم، يبدو أن عرضه في الصالات المصرية سيواجه مشكلات أكبر، مع مماطلة الأجهزة الرقابية في إصدار التصاريح الخاصة بالعرض، مثلما حدث مع فيلم "آخر أيام المدينة" لتامر السعيد، ومع الصعوبات المتوقعة في توزيع فيلم بمثل نوعيته على عدد مناسب من الصالات، في وقت لا يفكر الموزعون سوى في تلبية رغبات جمهور المواسم والأعياد. رغم ذلك، يؤكد محمد حمّاد أن رهان السينمائيين المستقلين يجب أن يكون على الوقت، فربما تنتصر السلطة في جولة أولى ولكن المعركة يفوز بها الفنان في النهاية، لأنهم يصنعون شيئاً سيبقى من بعدهم، بينما السلطة فانية وتتبدد.
"المدن" التقت المخرج محمد حمّاد للحديث عن فيلمه الطويل الأول، ورحلة إنجازه، وتعاونه مع زوجته ووالديه وأصدقائه، ومصائر جيله المشتركة مع بطلة فيلمه، والثورة.
- لنبدأ من العنوان، لماذا "أخضر يابس"؟
* الألوان في العناوين تعمل على إيصال ما أريده بسرعة. الألوان مثل الموسيقى، لا تفهمها بقدر ما يصلك منها من إحساس. توصيف اللون يعطيك مساحة شفافة للاقتراب من العمل الفني دون الاحتياج لكثير من الشرح والتقديم. في إحدى المرات أثناء استخراجي بطاقة تعريف ما، لفت انتباه الموظف الذي يسلّمني البطاقة وظيفتي المثبتة كمخرج، فسألني عن أفلامي التي أنجزتها، وحين أخبرته أنني أخرجت فيلماً بعنوان "أخضر يابس"، انتابت الرجل حالة من الحيرة والالحاح على معرفة ما يحكي عنه ذلك الفيلم صاحب العنوان "الغريب"، واستطرد في أسئلته ليعرف أي من الممثلين هم أبطاله وكيف ستتصرف شخصيات الفيلم، رغم تأكيده على عدم نيته مشاهدة الفيلم بالأساس. مراقبة أحاديث الناس تحيلك إلى دلالات أبعد من الكلام المنطوق، فذلك الموظف وصله إحساس ما جعله ينفر من مشاهدة الفيلم، ولكن في الوقت ذاته نما بداخله اهتمام بمعرفة قصة الفيلم وتفاصيله.
"أخضر يابس" لماذا؟ لأن الفيلم عن الوقت، والوقت غير الزمن بالمناسبة. وقت إيمان، الوقت الذي يتسبب في تيبُّس الأشياء ويغيّرها. الوقت يخطف نضارة الشيء حتى وإن بدا غير ذلك. الأشياء لا تتطور إلى أشكال أكثر براءة أو نضارة بمرور الوقت، بل العكس. حين تكبر في العمر ربما تصير أكثر صفاء ذهنياً ولكنك تصير خشناً وأكثر جفافاً. الوقت يفعل ذلك. الفيلم نفسه يحمل تلك الصبغة، لأنه خشن (raw) للغاية.
عادة لا أعمل وفي بالي عنوان محدد للفيلم. بعد الانتهاء من الفيلم أحسّست بأنه "أخضر يابس" فعلاً. في المشهد الأول من الفيلم تنظر إيمان من وراء زجاج شرفة شقتها إلى نباتاتها، التي يبرز بينها الصبّار، وهو نبات أتشارك مع إيمان الاهتمام به. علاقتي بالصبّار وتركيبه كبيرة وممتدة، مثل السينما، وهو نبات حكيم. الصبّار شجر مُعلِّم، لأن الإنسان يتعلّم منه الكثير، فهو ليس مجرد شجرة تقف في الهواء لا تفعل شيئاً. الصبّار يتحمّل ظروف حياة غير طبيعية لا تقدر على مجابهتها نباتات أخرى، وهو يحمي نفسه بجدار خشن يُصعًّب مهمة قطفه، ربما لذلك لا يتعامل معه الناس بحنان، رغم كونه نباتا رقيقا أصلاً.
- ما السبب وراء اهتمامك في مقاربة تيمات نسائية بشخصيات رئيسية من النساء؟
سبق ان صورت فيلمين قصيرين هما "سنترال" و"أحمر باهت"، كان أبطالهما من النساء، ولكن ذلك يحدث من دون تحضير أو قصد. في الوقت نفسه، لا ينفصل صانع الأفلام أو المخرج المؤلف عن تكوينه، والتفكير في ارتباط أفلامي بالمواضيع النسائية يحيلني إلى أسباب تربض في وعيي. مثلاً، عشت فترة طويلة من طفولتي في بيت جدتي، التي كانت تعيش مع 4 بنات، منهم والدتي، حين كان والدي مهاجراً خارج مصر، ثم أنجبت خالاتي غالبية أبنائهن من البنات، حتى أنا نفسي كنت الولد الوحيد بين 3 أخوات. لدي خال يملك مصنع حلويات مثل الذي يظهر في الفيلم، غالبية عامليه من السيدات، كان مسموحاً لي بالدخول إليه والتجول في داخله، نظراً لسني الصغير، وهؤلاء السيدات كن مثل أقربائي أو خالاتي. بالتأكيد مثل هذه الأشياء أثّرت في تكويني وفي أعمالي.
- أعجبني في الفيلم رغم كونه يناقش موضوعاً نسائياً إلا أنه لا يلجأ في أي لحظة إلى إصباغ نفسه بخطاب نسوي، أو حتى تصدير خطاب حول قضايا المرأة وحقوق النساء..
*أحب المساحات. أبحث عن الفراغات، هذه الفراغات حين تجدها كمشاهد في الفيلم تذهب إلى كل التأويلات المحتملة، وهذا هو جمال الفن. أنت شفاف أكثر، صافٍ، مفتوح تماماً لكل الاحتمالات. أحياناً يكون هذا مربكاً ومشوشاً، وربما يضطر البعض لأخذ التأويل إلى مناطقهم المألوفة من أجل فهم الفيلم، فيعتبرونه يدافع عن المرأة أو يهاجمها. الفيلم لا يحمل دفاعاً ولا هجوماً، وليس من وظائف الفن فعل شيء من هذا القبيل.
أنت تجد مساحات وفراغات، وتحتاج الى التعرف على الشخصية عن قرب. أرى أن أكثر وقت تصل فيه إلى داخل الشخصية هي اللحظات الخاصة جداً، مثل لحظات الانتظار في إشارات المرور"، لحظات استثنائية، انتظار طويل من الممكن أن تنسى الوقت، تسرح في أشياء، تستدعي أمورا أخرى في حياتك في علاقاتك بالآخرين. أبحث عن هذه اللحظات كمن ينقِّب، وهذه صعوبة ذلك النوع من الأفلام. في رأيي، أن السينما هي أقرب فن إلى الشعر، ومن أجل الوصول لذلك تحتاج للبحث بجِد عن تلك اللحظات الخاصة، لأنها الأكثر صفاء وشفافية وتندرج تحتها أشياء كثيرة، تسمح برؤية العالم بطريقة غير متوقعة.
هذا الانفتاح والحرية هو المطلوب، لا أحب أن أقول الأشياء كما يجب أن تُفهَم. هي ليست وصفة جاهزة، مثلما نجد في أفلام التقاليد الراسخة التي تلقّن جمهورها، وهذه أنانية شديدة جداً من صناع هذه الأفلام. حين أتناقش مع الفيلم يجب أن تكون هناك مساحة للتلقي، وهي مساحة محايدة. مثلاً، حين يقول أحدهم إن "الجو حار"، فيشغّل آخر مكيّف الهواء، ولكنه يستطيع أيضاً قول "تعال نفتح الشبّاك شوية"، وهي صيغة مختلفة وتحمل معان أكثر، تعطي براحا أكثر. أنا أبحث عن هذا البراح، بعيداً من ضيق المباشرة.
- في الحديث عن البراح وحرية تأويل العمل الفني، ألا يمكن اعتبار مشهد السلحفاة (وهي رمز للبطلة بشكل أو بآخر) في الثلث الأخير من الفيلم مقحماً ومباشراً أكثر من اللازم؟
* لا أذهب إلى معنى محدد، أحياناً تنجز الفيلم ثم تكتشفه مثل الآخرين. أنت أخبرتني أن الفيلم مقبض قليلاً، وآخرين قالوا ذلك عند مشاهدتهم الفيلم. وقت تصوير الفيلم وعمل المونتاج لم أكن واعياً بتلك الصبغة الكئيبة التي تدمغ الفيلم، وربما أدركتُ ذلك بعد أن شاهدت الفيلم مرتين أو ثلاث، وهكذا أشياء كثيرة في الفيلم ربما يخبرك مشاهدون بدلالات مختلفة لها غير ما قصدته أساساً. في هذا المشهد تحديداً، لم يكن في بالي إحالة وضع السلحفاة إلى شخصية إيمان. الحقيقة، أنني أدرك ذلك وقت استقبالي للفيلم مع آخرين، ولكن هذا ما يحدث، وهو أمر خطير أن تكتشف فيلمك أثناء عرضه، وأعتقد أن هذا ما يتيحه مثل هذا النوع من الأفلام. لا أظن أن ذلك سيحدث في أفلام تتحدث عن موضوعات صريحة ومباشرة، الأفلام المحتشدة بالأحداث والساعية وراءها.
إضافة إلى ذلك، يجب الانتباه إلى أن "أخضر يابس" أحداثه قليلة جداً، تكاد تُختصر في حدثين فقط، وهذا المشهد الذي تشير إليه يأتي مع ثاني حدث في الفيلم تقريباً. بشكل ما، يربط الناس شَرطياً بين الحدث والمشهد الذي يليه، وهنا، لا أقصد فرض وصاية على استقبال المشاهدين للفيلم، ولكنني أظن أنه فور وقوع الحدث على الشاشة، ينعطف تأويل المشهد التالي على الحدث. مثلاً في أول الفيلم، ومع عدم وجود حدث مقابل، لم نتحدث عما يمثّله الصبّار الذي يظهر في البداية.
- رمزية التفاصيل المتناثرة بطول الفيلم مفهومة ومقبولة وفي صلب الفيلم، ولكن مشهد السلحفاة كان يبدو مباشراً ونافراً رغم ذلك..
* لا أستطيع رفض مثل هذه الآراء، بالعكس كما أقول أكتشفها مع مشاهدتي للفيلم ومع ردود أفعال المشاهدين، وهو أمر مثير للتأمل. في العادة يشعر المخرج بعد الانتهاء من فيلمه بإحباط شديد، وهذا له أسبابه المعروفة، وما يخفف عنك وطأة ذلك الإحساس هو ما يصلك من تعليقات تضيف جديداً ولا تُفقدك علاقتك بالفيلم، لذلك أستغرب جداً من المخرجين الذين يصرّحون بأنهم لا يشاهدون أفلامهم بعد الانتهاء منها. في النهاية الجميع أحرار، ولكن مشاهدة العمل تجعلك تكتشف أشياء جديدة. مثلاً، اكتشفت أننا جيل يملؤه الكثير من الحزن. هذه هي الحقيقة التي اكتشفتها بعد الانتهاء من الفيلم وأثناء استقبال ردود أفعال المشاهدين، وهي مُبرَّرة للغاية.
- ما علاقة إيمان بذلك؟
* إيمان مقاربة لي في العمر، عاشت الفترة نفسها التي عشتها. نحن الجيل الذي وُلِد في الثمانينيات، وعاش مراهقته في التسعينيات، ثم شهد حدثاً كبيراً في الأيام الأولى من العقد الثاني في الألفية الثالثة. تلك الفترة كوّنت ذلك الجيل.
- هل هناك تأثيرات لمخرجين ساهمت في خروج "أخضر يابس" بالشكل الذي خرج عليه، بأسلوبه وإيقاعه المرتكز على رصد التفاصيل اليومية والعادية؟
* سأخبرك بشيء غريب، هناك فيلمان لفتا نظري جداً، الأول هو "مشاهد مكررة" للمخرج الفرنسي من أصل جزائري رشيد جعداني والثاني"راقصة في الظلام" للدنماركي لارس فون ترير. ما استوقفني في الفيلمين أنني لم أكن قادراً على مشاهدتهما بعد أول عشر دقائق من عرضهما، حدث لي تشويش ربما من طريقة التصوير أو السرد، حدث لي الأمر نفسه بصورة مضاعفة في فيلم "مشاهد مكررة". ولكنك بعد عشر دقائق تدخل إلى الفيلم بمنطقه. هذا النوع من المخرجين أظنني استوعبت من أفلامهم شيئاً يتعلق بعقد اتفاق مع المتفرج حول تجربة المشاهدة، وذلك من خلال اختبار صعب المراس في أول عشر دقائق من الفيلم.
السنة الماضية، شاهدت فيلمًا يابانيا في المسابقة الرسمية لمهرجان لوكارنو السينمائي، عنوانه "أطفال الهلاك"، ومنذ المشهد الأول وحتى الأخير منه لم يتوقف الضرب والعنف. فيلم فظيع، مربك جداً، ستغادر قاعة العرض بعد عشر دقائق إذا لم تكن راغباً في إكماله، وستلزم مكانك حتى آخر لحظة منه إذا أردت إكماله. هذه الطريقة أشبه بمراسم التوقيع بالأسماء الأولى، لذلك أصريت على أن يحتوي فيلمي كل تفاصيل حياتنا الصغيرة التي تتجاوزها ولا تقبلها الشاشة الكبيرة، لأنها تريد نوعاً من متفرجين تستطيع استبقاءهم في الصالة بالأحداث المتتالية.
لدي اعتقاد راسخ بقدرة الشاشة الكبيرة على إدماج المتفرج داخل اليومي الحافل بتفاصيل كثيرة تبدو للوهلة الأولى كأنها عديمة الفائدة، لكن تلك التفاصيل هي جوهر حياة بطلة الفيلم "إيمان". لا يمكننا تصور يوم البطلة من دون أن نراها تقوم بلفّ الحلوى بتلك الطريقة المميزة للهدايا، ولكنه فعل تقوم به أكثر من خمسين أو ستين مرة في اليوم الواحد، ويشير إلى أوقات سابقة اجتازتها كي تصل إلى هذا الأداء الذي يبدو عادياً وروتينياً. هذه هي حياتها، وإذا أردت التعرّف إليها فعلاً، لابد من التعرف على تفاصيلها الخاصة الصغيرة، واكتشافاتها، تفاصيل حياتها ربما ليست بالكثيرة، وربما ليست مهمة للبعض، لكن من المؤكد أهميتها وحيويتها بالنسبة لإيمان.
لا أعرف كيف يمكن إلحاق هذا بأسلوب مخرج معين، ولكن في النهاية أنت تمتلك ذاكرة فيلمية تختزن بداخلها الكثير من التجارب المختلفة. أشاهد أفلاماً كثيرة، وربما أحب أفلاماً لا تمت بصلة لما أنجزه في عملي. أحب ديفيد لينش، وأعتبره علامة فارقة في تاريخ السينما من ناحية الطريقة التي يرى بها الحياة من وجهة نظر خاصة جداً. بالتأكيد فيلمي ليس له علاقة بديفيد لينش وغير متأثر به، ولكنني تعلّمت منه امتلاك وجهة نظر خاصة في ما أطرحه، وإلا فلا فائدة للمجهود الكبير الذي تبذله من أجل إنجاز فيلمك. أحب أفلام كياروستامي رغم كونه في منطقة بعيدة. أنت لا تقول إنك متأثر بشخص معين، بل الأمر عبارة عن خبرة بصرية تتراكم، مشاهدة بعد أخرى.
- لماذا إصرارك على اختيار ممثلين يقفون أمام الكاميرا لأول مرة؟
* استمتع بالتعامل مع هؤلاء الذين لم يفكّروا في التمثيل طوال حياتهم، علاقة المخرج مع الممثل النجم في الأفلام التجارية تكاد تنحصر في أن المخرج يتوخى الحذر حتى لا يغضب النجم، فيجامله ويصفّق له ويكيل له المديح على أدائه، وكأن الأمر متفق عليه مُسبقاً دون آلية للمراجعة والتصويب والتطوير. لذلك تجد معظم الأداءات متشابهة، حتى مع اختلاف الأدوار التي يؤديها الممثل الواحد، مثلما يحدث في ألبومات المطربين حيث تتوالي أغنية حزينة وشكّاءة للغاية بعد أغنية أخرى كلها هيام وفرحة، وربما تجد في نهايته أغنية وطنية تمجيدية في الوقت نفسه الذي يعترف المغني في أغنية سابقة بأن كل ظروف العيش في البلد لا تحتمل، معطوفة على غدر الأصحاب وقلة الحظ.
أردت ممثلين ليس لدى المشاهدين أي انطباع مسبق عنهم، أو صورة ذهنية، بالإضافة إلى أنه من الممتع بالنسبة لي المجهود الذي يبدو للبعض بلا فائدة في تدريب الممثلين، ممن يفضلون العمل مع الممثل على طريقة "ضعه في الحدث وهو سيتصرف". لا أريد فعل ذلك، بل أريد متعة النَفَس الطويل، مثلما يستمتع المرء خلال الأكل. أردت الاستمتاع بالتجربة كلها، واستكشاف علاقة المخرج بالممثل. بالطبع علاقة المخرج بالممثل النجم في الأفلام التقليدية تنحصر في وقت التصوير فقط. في "أخضر يابس"، كنت مع الممثلين نكتشف بعضنا البعض على مدى سنة كاملة استغرقها تصوير الفيلم، وهي مدة طويلة ولكنها معتادة في الأفلام المستقلة نظراً لصعوبات الانتاج وتوفيق أولويات الممثلين والطاقم الفني.
أنت تبني علاقة مع ممثلي فيلمك، وتكتشفهم، وهي أشياء لم أكن مستعداً لخسارتها عندما بدأت الفيلم. كنت أقول لنفسي أنه من غير المعلوم متى يمكن حدوث هذا مرة أخرى، هي فرصة تحتاج الى الاستمتاع بها، تكتشف وتكوِّن علاقة أخرى مع الممثلين. كانت فرصة لرؤية أمي وأبي وحماي بطريقة مختلفة لما اعتدته طوال حياتي، وبالمثل هم أيضاً تختلف نظرتهم إليّ في تلك الأوقات المستقطعة لتصوير الفيلم. أشياء غريبة وجميلة، تحاول الاستمتاع بها بقدر ما تستطيع، لأنك لا تعرف متى ستكررها. أنت أصلاً لا تعلم هل ستنجز فيلماً آخر أم لا.
- في مناسبة الفيلم القادم، هل سيكون مشروعك الجديد مشابهاً في ظروف إنتاجه لتجربة "أخضر يابس"؟
* بالطبع إذا كانت هناك ظروف مساعدة أكثر تخفف عن كاهلنا الأعباء فسيكون هذا جميلاً. لا أنكر أن الفرص حالياً كثيرة، خاصة بعد نجاح الفيلم في لفت الأنظار، ولكن لدي وجهة نظر بخصوص العلاقة بين المنتج والسينمائي، فمن سيختارك لعمل فيلم ما لديه بالتأكيد تصوُّره عن الطريقة التي تعمل بها، ومن المفترض اقتناعه بها. هناك مَن سيتحدث بلغة السوق، وفي النهاية يمكننا الوصول إلى نقطة يتفق فيها الطرفان.
في رأيي، علاقة السينمائي مع المنتج براغماتية جداً، لأنه يدخل معه دائماً في نقاش حول الأمور المادية والمتطلبات اللازم توافرها من أجل خروج الفيلم بالشكل المطلوب. هذه علاقة أزلية، وستبقى هكذا، مهما كان الاثنان متفاهمين ومتفقين، لأن المال مَن يتحدث في هذا الوقت. الشاطر هو مَن يختار المنتج الأنسب له، يذهب لمَن سيعطي فيلمه ما يحتاجه، مسألة تباديل وتوافيق أو عاشق ومعشوق. مثلاً، فيلم "الماء والخضرة والوجه الحسن" ليسري نصر الله من إنتاج أحمد السبكي، لأنه رأى فيه المنتج المناسب لهذا الفيلم، هنا المخرج هو مَن اختار المنتج وليس العكس.
بالطبع عملي لا يناسبه سوى قلة من المنتجين، ولكنهم موجودون. وهناك منتجون منفتحون للدخول مع السينمائي في العلاقة الأزلية بخصوص التنازل عن بعض الأمور لصالح أمور أخرى، وفي النهاية تلك الطريقة مكاسبها أكبر من الطريقة التي أنجزنا بها "أخضر يابس". أن تصنع فيلمك الأول من دون منتج هو تحد كبير. القرار لم يكن مفروضاً عليّ، بل اخترته بنفسي، تحدٍ شخصي تحتاج فيه الشجاعة والثبات من أجل إكماله، فمنذ ثاني أيام التصوير يحدث لك أمور تخبرك بأن الأنسب هو أن تعود إلى بيتك وتلزمه. لو سايرنا ذلك الاحساس ولم نكمل التصوير، فإن الخسائر ستكون مضاعفة جداً، وستكون هناك صعوبة كبيرة في عمل أي شيء آخر. عليك أن تورِّط نفسك، والمجموعة التي تعمل معها، لإنجاز العمل بالشكل المُرضي. يصبح الأمر مسألة حياة أو موت.
- نعود إلى إيمان وعلاقتها بالجيل الممتلئ بالحزن وفشل الثورة المصرية..
* الأمر متعلق بما أختبره وأراه في دائرتي القريبة من عجز عن الفعل، وحتى إن استطعت القيام بذلك الفعل فإن تأثيره لن يكون محسوسا أو موجوداً. لدي عدم ثقة في تأثير الأفعال مهما كانت كبيرة على تغيير الأمور، حدث مثل 25 يناير ينطبق عليه هذا الكلام. إيمان ليس لديها رد فعل. في نهاية الفيلم قامت بفعل غاضب وعنيف في لحظة معينة. ربما لو لم يصوّر ذلك الفعل في الفيلم لن يكون مهماً، لأنه فعل سرّي يخصها وحدها ولن يتأثر به أحد. تضمين ذلك المشهد/الفعل في الفيلم يجعله حدثاً. ربما أقول من خلال إيمان أن هذا هو رد فعلي، والذي من الممكن ألا يكون مفيداً للآخرين ولكنه يضيف لي معنى.. معنى له علاقة بالكرامة، حتى لو لم يُفهَم بالشكل الصحيح، ولكنني أفهمه جيداً. الكرامة.. كبرياؤها كامرأة، كبني آدم، كرامتها، إنسانيتها، ليس من المعقول أن تتوقف الحياة على غشاء البكارة.
أرى من خلال هذا الفيلم أنني، على الأقل في فيلم، أقوم بفعل ما، فعل يمكن أن يثير عند المتفرجين شيئاً. ما الذي يُنتِج ذلك؟ إحساس دائم بالعجز عن اتخاذ فعل يمكن له إحداث تأثير. هذا ما يجعلنا نشعر بالحزن، ليس الحزن فقط بل عدم الجدوى. إحساس عدم الجدوى مؤلم جداً. في النهاية، الخبرات تتراكم وتؤدي إلى ذلك الاتجاه، ثم تنجز فيلماً مثل هذا لتقول أن لديك عملاً يمكنه إحداث صدى أو تأثيراً ما في آخرين يتشاركون الهمّ نفسه.
- كيف ترى "أخضر يابس" كأكشن أو كرد فعل منك كصانع أفلام مستقل يعيش ويعمل في مصر حالياً؟
* لا أستطيع تحديد ذلك إلى درجة معينة، لكن يمكنني تأكيد قصديته. وبعيداً عن شخصية الفيلم إيمان وعلاقتي بها، أرى أن هذا الفيلم يمكن أن يجعل أناسا كثيرين، ممن كنت أتحدث معهم قبل سنتين أو ثلاث عن إنجاز فيلمهم الأول ويجيبون بأعذار تتعلق بعدم قيدهم في نقابة المهن السينمائية أو بالتصاريح اللازمة للتصوير وموافقات أجهزة الرقابة على السيناريو، يقدمون على اتخاذ الخطوة المؤجلة في مشوارهم السينمائي، لأن الفيلم سيُنجز رغم كل تلك العراقيل البيروقراطية.
قُبض عليّ أكثر من مرة خلال تصوير الفيلم، لا أقول ذلك على سبيل الفخر، ولكنه توثيق لروتين العمل. طالما قررت إنجاز فيلمك، فعليك إنهاء المهمة سواء امتلكت تلك التصريحات والموافقات أم لا. وحين يواجهك رد فعل عنيف من جانب قوات الأمن بسبب التصوير في الشارع، لابدّ من امتلاك رد فعل موازٍ له. حين أفكر في الأمر، أقول لنفسي إنني أصنع فيلماً سيبقى بعد موتي، بينما رجل أمن تصادف مروره بي يسألني بفظاظة: "إنت بتصور إيه؟". أترى في ما أفكر فيه حالياً؟ أفكر في الخلود، ورجل الأمن يتحدث عن التصاريح وضرورة المغادرة.
على قدر ما ستراه من حدة متسلطة، عليك مقابلتها برد فعل صادم وواثق: سأصوّر فيلمي، رجل الأمن لا يفهم ما أصوّره وما يمثله لي. أنت الآن أقوى بكثير جداً من رمز السلطة هذا الذي تعثّر بك، أنت مُحمَّل بسنوات التفكير في الفيلم والحلم بإنجازه، مهما كانت النتائج، عرضوه أو أخّروه أو منعوه أو لم يدخله أحد، أنت أقوى في هذه اللحظة وحتى الآن. هذه أشياء تعلمتها، وأظن أن فيلماً مثل "أخضر يابس"، أكّد لي القوة التي أمتلكها كصانع أفلام. هل كان يعرف رجل الأمن أن هذا الفيلم الذي أراد أن يوقف تصويره سيذهب إلى 40 مهرجانا سينمائيا ويُعرض في 23 دولة؟ هل يعرف كم شخص شاهده خارج مصر؟ بالنسبة اليّ كان فيلم "أخضر يابس" اختبارا لقدرتي على فعل ما أريد .
إذا كنت تسألني عن تقديري لفيلمي باعتباره رد فعل على الصعوبات التي يواجهها السينمائيون المستقلون في مصر، سأقول لك: "روح اعمل فيلمك"، ولا تحدثني عن الصعوبات. كل المبررات هي أشياء يقولها الواحد لنفسه كي يتساهل معها في سلبياته، وهذه هي الأزمة. لا أقول أنني لا أحظى بفترات يسيطر فيها العجز عليّ أو مشقة إكمال العمل، هناك عوائق كثيرة في الحقيقة تجعلك حزيناً طوال الوقت، لكن قوّ نفسك بفكرتك، راهن على الوقت. الرهان على الوقت والمدة والصبر هو الشيء الوحيد الذي يجعلك تستمر في الحياة.
في كل الأحوال، أشعر بالحزن والألم بداخلي، لكن ما الذي يجعلني قادراً على إكمال الحياة وأتقابل معك اليوم لنتحدث في السينما ونشاهد الفيلم؟ لأن هناك أملاً ما في قدرة الوقت على إحداث التغيير، لكن عليك أولاً أن تُكمل ما تفعله. لذلك، سأعمل على فيلم جديد. لابد من ذلك، إنه أمر واجب في مصر، لأنك إذا لم تُكمل لن يكون هناك أي شيء على الإطلاق.
- لكنك قلت سابقاً إنها معركة خاسرة مع السلطة؟
*على المدى القصير نعم، لكن أيضاً الجولة التي خسرتها لم تكن مؤلمة تماماً، لأنها متوقعة. لكن لا بد من وجود شيء أشبه بتعاونية بين السينمائيين. زوجتي خلود كانت تفكر في أنه يمكننا المساهمة والمساعدة في إنتاج أعمال آخرين، لكن المشكلة دائماً تكمن في النَفَس القصير لمن تساعدهم. يجب علينا أن نكون جادين أكثر ومؤمنين بأن هذا المشروع سيكتمل وسيرى النور. مثلاً، في فيلمي كنت مؤمناً إيماناً كاملاً ومن أول يوم بدأت فيه الكتابة بأن هذا الفيلم سينتهي ويُعرض للناس. ولأجل هذا، أفكر أحياناً مستغرباً كيف سار الأمر سلساً إلى أن خرج الفيلم، رغم كل المصائب التي تسبب بها. قوة إيمانك تجعلك تتغلب على ما سيواجهك.
- لماذا لم يُعرض الفيلم في مصر إلى الآن؟
*لا أعرف، حقيقة لا أعرف السبب. كنت أريد الذهاب إلى الأجهزة الرقابية قبل أن يبادروا هم بطلب الفيلم، ولكن حدث العكس. هناك أمر آخر يجب الانتباه إليه وهو أن سوق السينما في مصر، الصالات وأصحابها والموزعون، لا يعطي الفرصة لأي فيلم للتواجد هكذا بسهولة. في الواقع، السوق لا يعطيك فرصة، لا يحاول التجريب ولا يهوى المغامرة، بل يدمن الرهان على التفاهة. لدي نظرة مرعبة بخصوص موضوع توزيع الفيلم، فهناك أفلام تافهة يعرف الموزعون قلة حظوظها في جني الأرباح المطلوبة، ولكنهم يراهنون على تفاهتها كي تتمكن من الحصول على نصيبها من المشاهدين. يحدث ألا يحضر عروض فيلم من هذا الأفلام مشاهدون يعدون على أصابع اليد الواحدة، ولكن الموزع يصرّ على استمراره، لماذا؟ لأنه فيلم تافه جداً وربما يفعلها في النهاية ويأتي بالأرباح.
ربما هي حالة مسيطرة، أو صراع، وفقاً للمثل القائل "المرء عدو ما يجهله". ذات مرة جمعني لقاء مع مالك عدد من صالات السينما وشعرت بذلك الاحساس، رغم طيبة الرجل، لكنه رفض الدخول في مغامرة جديدة ودعاني لصنع أفلام "تجعل الناس مبسوطة". هذا الكلام ينطبق على الأفراد والدولة، فالأمر نفسه سيتكرر حدوثه إذا حاولت عرض فيلمك في إحدى الصالات المملوكة للدولة. ثمة إحساس يُصدَّر لك بأن "دمك تقيل على قلبهم".
- في ظل هذا الوضع، كيف ترى مستقبل المشاريع السينمائية المختلفة؟
* بالنسبة اليّ أذكى مثال حدث للتغلب على ذلك هو يوسف شاهين، حين أراد عرض فيلمه "باب الحديد" ولم يجد حماسة من الموزعين وأصحاب السينمات، فجمع كل مدخراته واشترى سينما أوديون. الأمر يحيلنا إلى الحديث عن قصور الثقافة الجماهيرية التابعة للدولة ودورها الحقيقي ومسؤوليتها في نشر الثقافة والوعي. إذا كانت الدولة لا تستطيع إنتاج أو تمويل المشاريع السينمائية، فعلى الأقل لديها أماكن مجهزة للعرض. الطريقة التي تتعامل بها الدولة مع قصور الثقافة تخبرنا عن عقلية لا تولي أي أهمية للثقافة بقدر ما تغلّب هاجس الأمن السياسي على الإدارة الصحيحة. الدولة تريد تحويل قصور الثقافة إلى بيوت أشباح، بدلاً من أن تفتحها للعروض الجماهيرية، ولو بسعر رمزي.
كي تتعامل مع الواقع الحالي، عليك أن تذهب إلى خارج القاهرة. مدن مثل المنصورة وطنطا والإسماعيلية لديها بالتأكيد مشاهدين يسعون لمشاهدة تجارب سينمائية مختلفة. نحن نريد الاهتمام بهؤلاء، ممَن لا يهتم بهم موزعو السينما السائدة إلا في إطار حسابات الربح والخسارة. لدينا معاناة من مركزية القاهرة التي تبتلع الهوامش والأقاليم. نحن بلد مركزي بائس، أرادته السلطة هكذا كي لا تصير ضجة في الخارج، ويمكنها السيطرة على المركز الصغير المنغلق على نفسه. القاهرة واسعة قليلاً؟ نغلقها ونُبعد ضواحيها لتصير خارج العالم. هذه الضواحي لا تعيش أساساً. المشكلة أننا اعتدنا القهر حتى صار مفروضاً علينا. إيمان لم تكن مدركة لذلك، واعتبرته طبيعياً، لكن اعتياد القهر ليس أمراً طبيعياً. اعتياد القهر لا ينفي حقيقته.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها