مع حلول منتصف القرن التاسع عشر، وسّع المؤرخون الاوروبيون، وخصوصا الألمان، عملية اعادة كتابة التاريخ بحسب أصول علمية لا تتفق بالضرورة مع الرواية المسيحية الدينية، فانكبوا على دراسة تاريخ العرب والمسلمين، وقدموا اعمالا تحول بعضها الى اعمال كلاسيكية ومرجعية لكل الاعمال التاريخية التي تلت.
الا ان الضوابط الحديثة للتدوين التاريخي لم تلغ الانحياز الاوروبي للرجل الابيض والاعتقاد بتفوقه على باقي الشعوب. ولأن تاريخ الرجل الابيض ونهضته في عصر التنوير كان تاريخاً حديثاً، استنبط الاوروبيون تاريخا لهم يعود الى منتصف الالفية الاولى قبل الميلاد، ويبدأ مع اليونان، ثم الرومان، ثم البيزنطيين والصليبيين، فعصر النهضة والتنوير.
وحاولت مجموعات التنوير الاوروبية، مثل الماسونية، مصادرة الحضارات الأقدم، فاعتبرت ان عقيدتها عن البناء تعود الى عصور غابرة تربو على ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، مرورا باحيرام الفينيقي باني هيكل سليمان اليهودي، وصولا الى بنّائي الكاتدرائيات الاوروبية الضخمة، فبناء عاصمة الامبراطورية الاميركية الجديدة، فعليا وفكريا.
إلا أن التدوين الاوروبي العام للتاريخ كان يتطلب التقليل من اهمية بعض الحضارات الماضية او رميها بالبربرية، وهي عملية بلغت ذروتها مع معاداة السامية الاوروبية، وطرد اليهود، واندلاع الهولوكوست النازية.
وفي تهميش تاريخ الحضارات غير الاوروبية، نسب بعض المؤرخين الاوروبيين سلسلة من الانجازات لليونان، على الرغم من ان هؤلاء — باعترافهم — نقلوا جملة معارفهم، بما في ذلك حروفهم وعلم الابحار، عن الفينيقيين. هكذا، ضاعت قرون من الانجازات والمستوطنات الفينيقية في حوض المتوسط، خصوصا في شبه الجزيرة الايبرية (اسبانيا والبرتغال)، التي تعود الى خمسة قرون قبل الميلاد، وتم استبدالها بغزوات بربرية عربية في القرن السابع الميلادي. ولتأكيد انتصار الحضارة على البرابرة، قام الاوروبيون بتصوير استعادة الايبيريين الاندلس، في القرن الخامس عشر، على انه عملية طرد.
وعلى مدى القرن الماضي، ساهم "الفينقيون الجدد"، وهم من المسيحيين اللبنانيين، في الغاء انجازات الفينيقية بسبب اصرارهم على ربط القومية اللبنانية الفينيقية بأوروبا وابعادها عن العرب، وهي محاولات امتدت قروناً، وتضمنت خزعبلات تاريخية مثل اعتبار بطرك الموارنة في القرن الثامن عشر اسطفان الدويهي، أن شرلمان، ملك اوروبا في القرن التاسع، هو خال مار مارون، مؤسس طائفة الموارنة في القرن الرابع.
الفينيقيون لم يكونوا عرباً، لكنهم كانوا ساميين، مثل اليهود والآراميين والآشوريين والعرب، ومحاولة الموارنة فك ارتباطهم بالشرق والصاقه بالغرب، ألغى انجازات الفينيقيين التاريخية، وفي الوقت نفسه لم ينل رضى الرجل الابيض، وأكسبهم عداء أقرانهم الساميين، خصوصاً العرب.
هنا في لشبونة، لا يمكن اخفاء الدور الفينيقي. القلعة الأهم التي أعطت المدينة اسمها هي قلعة الأخبونة التي شيدها الفينيقيون وورثها الرومان، فالمرابطون، فالبرتغاليون، وربما لو قيّضت إعادة كتابة التاريخ الايبري، لتبين ان للفينيقيين دوراً رئيسياً في تمرير علومهم عن البحار الى الشعوب المحلية، التي تحولت، بحلول القرون الوسطى، الى كبرى الامبراطوريات البحرية التي استعمرت العالم، بما فيه القارة الاميركية.
ولأن التماهي مع اوروبا الحضارة تحول طموحا لدى شعوب العالم، كتب الايبيريون تاريخهم بشكل صوّر ملوكهم على طراز نظرائهم الفرنسيين والبروسيين والبريطانيين.
غربي لشبونة، بلدة سينترا، مصيف ملوك "البرتغال والچرڤ"، اي الغرب، نسبة الى غرب الاندلس. والاسم سينترا مستوحى من سينتيا، اي إلهة القمر، وهو يتماهى مع سينات او سيناء المصرية، والتي يعتقد انها جبل سينين في النص القرآني. شعار هذه البلدة المسيحية هو هلال ونجمة على الطراز الاسلامي.
الا ان المفاجأة تكمن في قصر بنها (او بينا او بنرأ وهو اللفظ اللاتيني الذي يعني ريشة وصخرة في الوقت نفسه، ومنه بترا او بطرس)، وهو قصر تم تشييده على اثر ظهور العذراء في نقطة البناء، وهي اسطورة شبيهة باسطورة فاطمة العذراء التي ظهرت في بلدة فاطمة شرق لشبونة.
القيمون على القصر يفتحونه للزوار، فيمر هؤلاء في غرف الدير، الذي حوّله ملك البرتغال فيرديناند الثاني إلى قصر له ولعائلته. داخل الغرف استعراض للفخامة — على طراز ملوك اوروبا — التي عاشها حكام البلاد.
لكن خارج القصر، وخارج برنامج الزيارة، نصب غير لافت للنظر، داخله نقوش عربية، يشي التباين في الخط انه تم نقشها على دفعتين. النقش الأول، نص يؤرخ اقامة الدير، وهو على الشكل التالي: "السلطان ضون مانويل بنا هذا الدير المبارك على اسم سيدتنا مريم ده پنها سنة ١٥٠٣". النص الثاني، يؤرخ رحلات البحّار الشهير فاسكو دي غاما، ويضيف ان بناء القصر تم برعاية فيرديناند وزوجه ماريا: "ذكر الرجوع ضون ڤاسكو ده غامه سالما من كشف واستملاك الاراضي والبلاد التي وجدها، اعنى، كابو بونا اسپير، (نسه)، والهند وغيره، ثم حضرة السلطان ضون فرناندو الثاني قرين ذات الجلالة ضون ماريا سيكونده عمرة واتقنة هذا (دير) وقلعة سنة 1840".
هذا النقش يقدم لمحات رواية مختلفة عمّا قدمه مؤرخو اوروبا.
أولاً، إذا كان الاوروبيون دحروا العرب من ايبيريا مع نهاية القرن الخامس عشر، فلماذا الاستمرار في استخدام النصوص العربية حتى العام 1840؟ ثانياً، من الواضح ان عملية تغريب النصوص البرتغالية استغرقت فترة طويلة، فمريم في العام 1503 هي ماريا في العام 1840. ثم ان التسميات الجغرافية صارت اوروبية ايضا في الجزء الثاني، فرأس الرجاء الصالح هو كابو بونا اسپير، وماريا الثانية هي ماريا سيكونده. اما في الاسلوب، فيشي النقش بأن عرب الأندلس استخدموا حروفاً من خارج الابجدية العربية، مثل ڤ وپ، واستخدموا التاء المربوطة في الفعل ايضاً، بدلاً من تاء التأنيث، مثل "عمرة واتقنة" بدلاً من "عمرت وأتقنت".
ويبدو ان الايبيريين لم ينظروا الى العرب كبرابرة قبل بدء مؤرخي النهضة الاوروبية بتصوير العرب على انهم شعب لا حضاري يحتاج للاوروبيين لإعداده للحداثة والحضارة. ولو كانت صورة العرب بأنهم برابرة، لما كان ملك البرتغال، حتى العام 1853، ليستخدم العربية تخليداً لذكراه وذكرى دي غاما.
إن نقش قصر بنها، وشعار سينترا، واسميهما، وقلعة الأخبونة وتاريخ المرفأ الفينيقي المجاور، كلها مواد تاريخية تحتاج الى إعادة نظر بهدف إعادة كتابة التاريخ بعيداً من الحمية القومية التي غلبت على كتابات مؤسسي التأريخ الحديث من الاوروبيين. ولا شك أن الكتابة الجديدة للتاريخ قد تنصف الفينيقيين وانجازاتهم، وتعيدهم الى ساميّتهم، والى قربهم من العرب، والى مساهمتهم في صناعة التاريخ العربي، بدلاً من تصوير التاريخ على انه صراع حضارات اجتاح بموجبه العرب البرابرة، فينيقيا وايبيريا الاوروبيتين.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها