السبت 2014/08/16

آخر تحديث: 14:36 (بيروت)

"ماغريت المختفي".. الفوتوغرافيا أنقذت كنوز السّوريالية

السبت 2014/08/16
increase حجم الخط decrease
صور فوتوغرافية قليلة ونادرة هي ما يمكننا العثور فيها على تفاصيل حياة السوريالي البلجيكي رينيه ماغريت (1898 - 1967)، على العكس مثلاً من رفيق دربه الأسباني سلفادور دالي المولع بالنجومية إلى الحد الذي كانت الصحف العالمية تكلّف مصوريها بمطاردته أينما ذهب، بل نكاد نجزم أن ماغريت لم يتآلف قط مع فكرة التصوير الفوتوغرافي. فالصور الفوتوغرافية المحفوظة له في حياته الخاصة أو مع زوجته جورجيت برجر، التي حملت اسمه بعد زواجهما العام 1922، قليلة جداً، وربما يرجع هذا إلى تعفّف ما لدى ماغريت جعله ينأى بحياته الخاصة وأسرار مرسمه عن فضول عدسات الكاميرا طيلة حياته التي امتدت إلى تسعة وستين عاماً.

اليوم، وبعد مرور نحو 47 عاماً على رحيل ماغريت، تعيد الفوتوغرافيا إحياء 27 عملاً فنياً لأكبر فناني بلجيكا السورياليين وإعادتها من جديد إلى الوجود، وكانت هذه الأعمال واللوحات قد اختفت أو دمرت تماماً أثناء الحرب العالمية الثانية في أكثر من مكان ومدينة، ولم يعد لها وجود أو أثر يذكر إلا في بعض الصور الفوتوغرافية وكتابات النقاد الذين عاصروها وكتبوا عنها آنذاك قبل تدميرها أو اختفائها التام. الفكرة المجنونة نفذتها مؤسسة ماغريت التي تتولى الإشراف الكامل على إرثه الفني ومتحفيه الموجودين بالعاصمة البلجيكية بروكسل، حين قرر القائمون على المؤسسة قبل سبعة أعوام أن يعيدوا تنفيذ هذه الأعمال المختفية بنفس المقاييس والمواد التي نفذّها بها فنانها الأصلي، لتظهر اليوم بعد سبعين عاماً من اختفائها أو تدميرها في معرض ضخم واسثنائي تحت عنوان "ماغريت المختفي"، مقدمة الحلقة المفقودة في مسيرة أحد آباء السوريالية.

المعرض الذي افتتح قبل أشهر ويستمر حتى 14 أيلول/سبتمبر المقبل، لاقى نجاحاً ملحوظاً، إلى درجة جعلت زوار متحف ماغريت الذي يستضيف المعرض يتضاعفون خمس مرات عن المعتاد. فالفكرة في حد ذاتها جديدة وغير مسبوقة، أن يعاد خلق أعمال فنية اختفت أو دمرت لتقدم من جديد بنفس أسلوب فنانها، وهنا علينا أن نشير إلى أن اللوحات والأعمال الفنية الـ27 التي يقدمها المعرض استغرق العمل عليها أكثر من سبع سنوات من قبل مجموعة من خبراء الفن العالميين، ليعيدوا خلق هذه الأعمال كما لو كانت خرجت من تحت يد فنانها الأصلي، معتمدين في ذلك على الصور الفوتوغرافية التي التقطت لهذه الأعمال قبل تدميرها واختفائها، ومستخدمين في إعادة انتاجها المواد والألوان ذاتها التي استخدمها ماغريت في لوحاته التي نفذها إبان فترة الحرب العالمية الثانية وما سبقها من أعوام.

أندريه خاريته، المسؤول عن متحف ماغريت الذي يستضيف المعرض، يوضح لـ"المدن" أن العمل على إنتاج هذه الأعمال المختفية لرائد السوريالية البلجيكية استمر كل هذه الفترة بسبب الدقة المتبعة لتنفيذ اللوحات، إذ استغرق العمل على كل من اللوحات الـ27، ما بين ثلاثة شهور وأربعة، للخروج بالنتيجة التي رأيناها في اللوحات المعروضة. لم أُخفِ ترددي في أن أطرح السؤال الذي كان يدور في عقلي وأنا أتجول بين جنبات المعرض: ألا ترى أنها فكرة مجنونة في الأساس أن تقوموا بعمل نُسخ غير أصلية من أعمال دمرت أو اختفت لفنان كبير بحجم ماغريت، معتمدين فقط على صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود؟ ولم أنتظر طويلاً لأسمع من خاريته رداً لم أكن أتوقعه: "هذه الأعمال المختفية كانت مجرد رؤيتها في الصور الفوتوغرافية يثير الحسرة في قلوب محبي ماغريت والسوريالية في جميع أنحاء العالم، وكي أكون واضحاً أكثر أعارض استخدامك لكلمة "نُسَخ" في سؤالك، فنحن حين أردنا تقديم هذه الأعمال من جديد لم نكن نقدم "نُسخاً" للأعمال الأصلية المفقودة، بقدر ما كنا نريد إعادة إحياء هذه الأعمال التي تشكل في رأي نقاد الحركة السوريالية، الحلقة المفقودة في مشوار فنان سوريالي كبير بحجم ماغريت، والآن بعدما قدمنا تجربتنا وأثبتت نجاحها لك أن تختار، فإما أن تستمتع بهذه الأعمال وإما لن تستمتع بأي شيء!".

احتل المعرض الاستثنائي الطابق الثاني من المتحف الذي كان في السابق أحد البيوت التي سكنها ماغريت في بداية حياته الفنية، في قلب مدينة بروكسل، وضمن فعاليات المعرض تم توزيع أول كتيب مطبوع للمتحف تحت عنوان "إعادة اكتشاف السوريالية" باللغتين الهولندية والفرنسية جاء في 160 صفحة من القطع الكبير، مقدماً تأريخاً نادراً للحركة السوريالية برموزها من الفنانين الكبار. وتأتي أهمية هذا المعرض أنه يقدم، للمرة الأولى، أعمالاً لم يرها أحد من قبل لماغريت، وكانت المرة الأخيرة التي عرضت أعمالاً مختفية للفنان نفسه في باريس العام 1967، بعد شهور قليلة من رحيل صاحبها.

خرجت من المعرض وأنا أفكر في كلمات المسؤول عن متحف ماغريت، وانفعاله وهو يرد على سؤالي الذي يبدو أنه استفزه، ووجدتني، بيني وبين نفسي، أبتسم وأنا أردد في داخلي جملة واحدة: "شكراً للفوتوغرافيا التي احتفظت بهذه الأعمال، شكراً للفوتوغرافيا التي أنقذتها من الزوال".
increase حجم الخط decrease