لا يحسد الرئيس الأميركي باراك أوباما على الموقف الذي يجد نفسه فيه في التعامل مع الملف الإيراني، فهو في مأزق يحاول الخروج منه باستجداء مرشد الثورة الإيرانية، آية الله علي خامنئي، قبول نص الاتفاقية النووية المطروح منذ قرابة الشهر. ويعلق أوباما كل سياسته الخارجية على التوصل الى هذه الاتفاقية، ويعتقد انه لو فعل ذلك، فهو سيدخل التاريخ من بابه العريض، أما إن فشل، فلا تاريخ له ولا هم يحزنون.
وتفيد التقارير المتواترة في العاصمة الأميركية ان مجموعة دول الـ"5+1" عرضت على إيران الإبقاء على أربعة الاف جهاز طرد مركزي تعمل من أصل تسعة الاف تشغلها اليوم، على شرط تخفيض مخزونها من اجمالي اليورانيوم المخصب ووضع كل البرنامج تحت اشراف وكالة الطاقة الذرية. وفي تقارير لاحقة، تسربت معلومات مفادها ان واشنطن وافقت على زيادة الرقم الى ستة الاف جهاز طرد مركزي، وأن الموافقة النهائية هي بيد خامنئي.
لكن خامنئي لم يوافق، بل كتب في مقالة ان لا جدوى من اعتماد الاقتصاد الإيراني على رفع جزئي او كلي للعقوبات. وتابع خامنئي، في ما يشي بنظرة اقتصادية تنتمي الى زمن المعسكر السوفياتي واقتصادات الاكتفاء الذاتي، ان الخيار الأفضل لإيران هو الاعتماد على نفسها وعلى مواردها غير النفطية حتى لا تكون تحت رحمة زبائن نفطها او القرارات الدولية.
وبسبب تردد خامنئي، عمد أوباما الى ارسال رسالة سرية إليه، حثه فيها على قبول الاتفاقية المعروضة، ولمح اليه ضمنا ان ثمن قبول إيران هو تنازل أميركا لها في العراق سوريا.
بقي خامنئي متصلباً. وفي أولى الجلسات التي انعقدت في سلطنة عمان، قال الإيرانيون للأميركيين ان تعليماتهم تقضي بقبول المجتمع الدولي بالإبقاء على 20 ألف جهاز طرد مركزي تعمل للوصول الى تخصيب اليورانيوم على مستوى صناعي، وان إيران تطالب في الوقت نفسه برفع فوري لكل العقوبات الدولية، بدلا من الرفع التدريجي المطروح في الاتفاقية، وتطلب تحديد زمن الاتفاقية بأقل من عشر سنوات، ما يعني ان إيران تصبح في حل من مفاعيلها ويمكنها التخصيب كيفما تشاء في المدى غير البعيد.
لكن لماذا تتصلب إيران؟
يبدو ان طهران صارت تعرف ان أوباما علّق كل آماله على الاتفاقية: الحل في سوريا يتوقف على تسوية مع طهران، والقضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية" يحتاج الى تعاون عراقي لن يأتي من دون ايماءة إيرانية، والتهدئة في اليمن كذلك مرتبطة بإيعاز إيران لحلفائها بضبط النفس. وتعرف طهران ان فريق أوباما يستجديها منذ شهور في شؤون شرق أوسطية على هامش جلسات المفاوضات النووية.
أما أوباما، فهو اعتقد ان تعليق آماله على إيران يرسل رسالة الى طهران مفادها انه مستعد للتعامل معها بندية، وهو ما تطالب به الجمهورية الإسلامية منذ عقود، وانه مستعد للدخول في تفاهمات معها في منطقة الشرق الأوسط، والاعتراف بنفوذها، ومشاركتها الهيمنة.
لكن من قال إن إيران تريد ان تشارك أميركا الهيمنة على المنطقة بدلا من انفرادها بها؟
من نافل القول ان الإيرانيين اخذوا بعض المطالب من الاميركيين ليطالبوا بالمزيد، فبعد اعتراف أميركا بالندية، وقبول العالم التفاوض من دون وقف إيران تخصيب اليورانيوم، وبعدما دار أوباما يبحث عن نظيره الإيراني حسن روحاني ليصافحه في مناسبات نيويورك العام الماضي، ولم يتركه يرحل من دون اجراء اتصال هاتفي مباشر بينهما، وبعدما قال أوباما ومسؤولوه للقاصي والداني إنهم لن يقدموا على أي خطوة قد تثير حنق الإيرانيين او تبعدهم عن المفاوضات، أو تعطي طهران العذر لذلك، خصوصاً لناحية إحجام أميركا، لا عن ضرب قوات الرئيس السوري بشار الأسد فحسب، بل منع المساعدات العسكرية عن المعارضة السورية، بعد ذلك كله وجد الرئيس الأميركي نفسه في موقف من يستجدي تعاوناً إيرانياً، لأن سياسته الخارجية صارت مبنية تماما على تعاون كهذا.
ولأن إيران تعلم ان أوباما وضع نفسه في مأزق، فهي رأت نفسها قادرة على انتزاع أكبر عدد من التنازلات منه، بل أن اقصى ما تنازلت عنه هو وعدها للأميركيين بمساعدتهم في القضاء على داعش، وهي مصلحة إيرانية أصلا قبل ان تكون أميركية.
يقول معارضو أوباما في واشنطن إنه منذ اقرار اتفاقية جنيف المؤقتة، والتي تنتهي مفاعيلها في 24 الشهر الحالي، زادت إيران مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة ثمانية في المئة، في وقت تصدر وكالة الطاقة الذرية تقارير متتالية تشير فيها الى عدم تعاون السلطات الايرانية. ثمن المعاندة الإيرانية، يضيف المعارضون، هو إفراج المجتمع الدولي عن قرابة خمسة مليارات دولار من عائدات نفطها المجمدة، ما سمح بوقف ارتفاع التضخم في إيران وفي نمو اجمالي الناتج المحلي لهذا العام بواقع 2,5 في المئة، وهي نسبة وان كانت متدنية، الا انها أفضل بكثير من السنوات الماضية.
هكذا، تصم الإدارة الأميركية آذانها عن الانتقادات الموجهة اليها في الملف الإيراني، وتغض النظر عن اقتراحات من قبيل تسليح ثوار سوريا لتعديل الموازين واجبار إيران على التفاوض، بدلاً من البقاء تحت رحمتها، وكذلك الأمر في العراق وباقي الأماكن الساخنة في المنطقة.
أما أسوأ ما في الأمر، حسب منتقدي أوباما، فيكمن في انه ليس لدى الحكومة الأميركية أي خطة بديلة في حال فشلت المفاوضات مع إيران. وقتذاك، تنهار سياسة أوباما الخارجية تماما بعدما انهار الأسبوع الماضي داخليا، ويصبح "بطة عرجاء"، حسب التعبير الأميركي، قبل أكثر من سنتين على خروجه من البيت الأبيض.
في المفاوضات الأميركية مع إيران، لا يختلف اثنان على أن خامنئي تغلب على أوباما. "كش ملك"، يقول أحد الخبراء الاميركيين، "هذا هو وضعنا مع طهران اليوم".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها