القلق الذي انتاب بعض معارضي الرئيس السوري بشار الأسد مما بدى انقلاباً أميركياً في موقف واشنطن منه، بناء على بيان فيينا الصادر الأسبوع الماضي، والذي لم يأت على ذكر الأسد أو مصيره واكتفى بالإشارة الى ان اختيار الرئيس هو خيار الشعب سوري، هو قلق غير مبرر.
صحيح ان الرئيس باراك أوباما مؤمن بجدوى إعادة العلاقة الأميركية مع إيران الى ما كانت عليه قبل العام 1979، وصحيح ان أوباما قدم تنازلات كثيرة للإيرانيين في العراق ولبنان وهو مستعد لتقديم تنازلات لهم في سوريا، الا ان بشار الأسد أصبح "سامّاً" في السياسة، حسب التعبير الأميركي السائد.
ما دأبت إدارة أوباما على قوله، منذ مجزرة الغوطة الكيماوية في آب/أغسطس 2013، هو انها مستعدة لتسليم سوريا إلى الإيرانيين، مع ضرورة رحيل الأسد عن الحكم، وهي ضرورة لا جدال فيها.
سبب تحول الأسد الى "مادة سامة" في العاصمة الأميركية ليس قمعه الدموي لمعارضيه منذ العام 2011، فالرأي العام الأميركي لا تقلقه الديكتاتوريات او قمعها الدموي لمعارضيها، مثل إيران 2009 ومصر 2013، بل ان غالبية الاميركيين تؤيد حكما ديكتاتوريا على وصول الإسلاميين الى الحكم في أي دولة.
الأسد يفهم الرؤية الأميركية، وهو لهذا الغرض حرك ماكينته الإعلامية، فوجه المخرج نجدة إسماعيل دعوة للتلفزيوني الأميركي مارتن سميث، الذي زار سوريا وأنتج وثائقيا بثته شبكة "بي بي اس" الرصينة.
في الوثائقي، الذي جاء بعنوان "داخل سوريا الأسد"، الشباب والشابات يتراقصون في ملهى ليلي في دمشق، والمعارضون يجتمعون ويناقشون سبل تطوير الحكم، مع اعلان تمسكهم ببقاء النظام. وفي الشمال الغربي، يظهر مقاتلو النظام وهم يشربون البيرة ويتحدثون عن شهيداتهم وعن البديل الإسلامي المخيف الذي يقاتلونه.
الأسد يفهم التفكير الأميركي، لذا قدم نفسه مجددا – في الوقت يبحث العالم فيه عن حلول في سوريا – كخيار وحيد. عند الأسد ملاهي ليلية وبيرة، والبديل عنه هو نموذج طالبان القروسطي حيث تقطع رؤوس من يستمعون للموسيقى او يتناولون الكحول، وحيث المرأة مجبرة على البقاء في البيت.
لكن ما لا يفهمه الأسد في تفكير الاميركيين هو ان استخدامه الكيماوي، وهي تهمة ثابته ضده من وجهة النظر الأميركية ولا يمكن تعديلها، حوّله الى "مادة سامة" سياسياً من طراز هتلر أو صدام، اللذين يجمع الاميركيون على ضرورة مواجهتهما، مع او من دون استخدام القوة العسكرية الأميركية للإطاحة بهما.
ما لا يفهمه الأسد هو انه قطع "الخطوط الحمراء"، لا تلك الواهية التي وضعها أوباما، بل التي حولته الى شخصية محرمة على أي سياسي او رئيس أميركي، الآن او مستقبلاً.
وما لا يفهمه الأسد هو انه حتى أوباما، الذي حاول في كل لحظة إبقاء الأسد في الحكم وسمح له باللجوء الى أي دموية بحق شعبه ما عدا الكيماوي، وجد نفسه مجبرا على توجيه ضربة لقوات الأسد قبل ان يقدم له الروس مخرجاً سياسياً كانت تكلفته نزع ترسانة الأسد الكيماوية.
بعد اغتيال رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري في 2005، أدرك الأسد ان العزلة الدولية التي قادتها أميركا ضده تنتهي مع قدوم رئيس أميركي جديد، وكان ذلك صحيحا، فأميركا لم تنتظر حتى قدوم أوباما، بل كانت وزيرة خارجية بوش كوندوليزا رايس هي التي فتحت الباب لنظام الأسد للخروج من عزلته بدعوته للمشاركة في مؤتمر انابوليس للسلام صيف 2007. ثم جاء أوباما من أقصى اليسار الأميركي ووعد بـ"الانخراط" مع الأسد. وتحول اغتيال الحريري الى جزء من التاريخ.
لكن لاغتيال اللبنانيين بشير الجميل أو رفيق الحريري حساب عند الاميركيين، وارتكاب مجزرة كيماوية في الغوطة حساب آخر. للسبب نفسه لم ينجح الرئيس السابق بيل كلينتون في مد الجسور مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بعد العام 1998 بعدما تحول الأخير إلى ركام سياسي "سام" بعد اجتياحه الكويت.
أما مشكلة الأسد الكبرى فهي ان أوباما هو الأكثر يسارية والأكثر تسامحا مع الديكتاتوريات والمجازر بين الرؤساء الاميركيين، ماضياً ومستقبلاً، وبعد رحيل أوباما، لا يمكن للأسد أن يأمل برئيس أميركي جديد ينسى ما مضى، خصوصاً وسط اعتقاد أميركا بغياب أي أهمية استراتيجية لسوريا تجبر واشنطن على وضع مصالحها امام مبادئها.
أوباما يريد استبدال الأسد بحكم إيراني في سوريا، ودخول بوتين، منافس أميركا الاستراتيجي، سوريا عزز من تمسك واشنطن بطهران.
ويبدو ان إيران أدركت التفكير الاميركي، فحضر وزير خارجيتها جواد ظريف في فيينا على الرغم من تصريحات مرشد الثورة ضد أي تواصل مع اميركا خارج الموضوع النووي، وقال مساعد ظريف إن إيران لا تتمسك بالأسد رئيساً إلى الأبد، قبل أن تعود طهران للتبرؤ من هذه التصريحات.
إيران صارت تفهم ان الأسد انتهى في واشنطن، وتصريحات خامنئي المناقضة للديبلوماسية الإيرانية هي خير مؤشر على أن طهران ستقبل عكس ما يقوله المرشد، بالضبط كما تصرفت خلال المفاوضات النووية. واشنطن تنتظر من طهران تصرفاً مشابهاً للنووي، بحديث إيران عن التمسك بالأسد علناً وتخليها عنه في الغرف المقفلة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها