بوتيرة متسارعة مضت المبادرة التي أطلقها "المجلس الإسلامي السوري" لتشكيل "جيش وطني موحد" من فصائل الثورة والمعارضة السورية. واتفق أكثر من أربعين فصيلاً، حتى الآن، على تأسيس "وزارة دفاع" تابعة لـ"الحكومة السورية المؤقتة"، وتشكيل لجنة من أجل انجاز "هيئة أركان عسكرية"، وسط ردود فعل واسعة ومتباينة، ما بين مؤيد لهذا المشروع أو متحفظ عليه، أو معارض له ومشكك بأهدافه.
بعد التفاعل الايجابي، غير المتوقع، من غالبية الفصائل العسكرية، مع الدعوة التي وجهها "المجلس الإسلامي السوري"، في 30 آب/أغسطس، من أجل اندماج قوى الثورة والمعارضة العسكرية وتشكيل جيش موحد، ورغم تحفظ فصائل "الجبهة الجنوبية" على هذه المبادرة، فقد دعا "المجلس الاسلامي" إلى اجتماع لممثلي الفصائل المؤيدة للمشروع، من أجل مناقشة الفكرة مع "الحكومة المؤقتة"، ووضع الخطوات التأسيسية للبدء بتنفيذها.
الاجتماع عُقد، الإثنين، وحضره عدد من الناشطين الثوريين والشخصيات المعارضة، ولم ينجح فقط بالتوافق على تسمية رئيس "الحكومة المؤقتة" جواد أبو حطب وزيراً مؤقتاً للدفاع، وتشكيل لجنة لاختيار "هيئة أركان" للجيش المزمع تأسيسه، بل نجح كذلك، بحسب ما أكدته لـ"المدن" مصادر من "المجلس الإسلامي"، باقناع الفصائل المترددة بالانخراط في هذا المشروع، أو على الأقل التعاطي إيجابياً معه.
وحسب هذه المصادر، فإن الجهات التي كانت لها تحفظات على مبادرة "المجلس"، لم تكن فقط فصائل "الجبهة الجنوبية" التي لم تحضر الاجتماع، بل وكذلك فصائل أخرى، حضر ممثلوها اللقاء، وطرحوا تساؤلاتهم، وناقشوا تحفظاتهم التي تمت الإجابة عليها.
المصادر نفسها أكدت أن هذه التحفظات لم تكن على الفكرة بحد ذاتها، بل كانت تتعلق بالجوانب الفنية والتطبيقية لها، من حيث القدرة على تنفيذها في الظرف الحالي، وضمان التزام الفصائل بها حتى النهاية، وحجم تمثيل كل فصيل في "هيئة الأركان"، والأسس التي تحدد ذلك، ونوعية الممثلين وكفاءتهم، بالإضافة إلى الهدف من تأسيس هذا "الجيش".
وعلى الرغم من أن قضية "الهدف" استحوذت على الجزء الأكبر من النقاشات، ليس فقط داخل الاجتماع المشار إليه، بل وفي الفضاء الإعلامي، إلا أن بقية النقاط التي طرحت للتساؤل، وتمت المطالبة بأن تكون واضحة منذ البداية، تعتبر في غاية الأهمية بالنسبة لأصحابها، على الأقل من أجل ألا يكون مصير هذه المبادرة كمصير المبادرات المشابهة الأخرى، التي سبق وأن فشلت.
وتأتي على رأس هذه المسائل، قضية الضمانات الملزمة للفصائل التي ستنخرط في هذا المشروع من أجل عدم التراجع عنه، والجهة القادرة على إنفاذ هذه الضمانات. إذ يشكك الكثيرون بقدرة "المجلس الإسلامي السوري" صاحب المبادرة على القيام بهذا الدور، خاصة وأنه لا يمتلك أي وسيلة ضغط تجبر الأطراف الموقعة على الالتزام بتعهداتها.
مسألة لا يمكن حتى لـ"المجلس" نفسه أن ينكرها، أو على الأقل أن يبالغ بقدرته على الايفاء بمتطلباتها، مع افتقاده للتأثير في المناطق المحررة بما يكفي لحشد الشارع من أجل الضغط على الفصائل، التي في المقابل، وإن كانت قد اعترفت بـ"المجلس" كمرجعية دينية لها، إلا أن هذا الاعتراف لا يعدو أن يكون معنوياً لا رسمياً، ناهيك عن كونه جاء غالباً في ظروف حرجة كانت فيها هذه الفصائل تبحث عن غطاء لها. الأمر كما هو الحال اليوم مع هذه الدعوة، التي يُخشى أن تكون الاستجابة لها تكتيكية، بحكم الظروف شديدة الصعوبة التي تواجهها جميع قوى الثورة والمعارضة، عسكرياً وسياسياً.
وفي هذا السياق، هناك مخاوف من أن تكون استجابة بعض الفصائل، وخاصة الكبرى منها، استجابة شكلية، بهدف عدم الظهور بموقف حرج أمام الحاضنة الشعبية للثورة، على أن تتملص من المضي في المشروع لاحقاً، من خلال اللعب على عامل "التفاصيل" التي ستفتح مناقشتها بطبيعة الحال أبواباً للخلاف قد يستغلها البعض كذريعة للانسحاب، حالما تزول الدواعي التي أجبرته على الاستجابة للمشروع. وهذا أمر لا يمكن التقليل من أهميته، مثلما لا يمكن توفير ضمانات من أجل عدم حصوله أيضاً.
مسألة التمويل والتسليح، التي وإن لم يناقشها الاجتماع الأول بين أطراف هذه المبادرة، إلا أنها تبقى من أكثر المسائل إلحاحاً، ومن دون تقديم إجابات محددة حولها، فلن يكون لجميع التوضيحات والضمانات والتوافقات الأخرى قيمة كبرى، خاصة وأن مثل هذا المشروع، قد يؤدي إلى قطع ما تبقى من موارد الفصائل، كما حدث بالنسبة للفصائل التي اندمجت سابقاً، كـ"الجبهة الإسلامية" و"الجبهة الشامية"، في وقت تعاني فيه جميع الفصائل اليوم تقنيناً في الدعم، إلى حد قطعه بشكل كامل عن البعض منها منذ أشهر.
نقطة ناقشتها "المدن" مع عدد من الأطراف المنخرطة في هذا المشروع، والتي كشفت عن وجود دولتين على الأقل، مستعدتين لتقديم الدعم المالي واللوجستي لـ"الجيش الوطني للثورة"، في حال تم التوافق عليه وتشكيله بالفعل.
وإذا كانت هذه الأطراف ترفض الكشف عن الدول التي أبدت استعدادها لتبني "الجيش" المنتظر مادياً وتسليحياً، فإن وجود أي داعم، يَفترضُ من جديد طرح سؤال "الهدف" من إنشاء هذا "الجيش"، خاصة مع وجود أطراف مشككة بالمشروع والغاية منه. هذه الأطراف وأن كانت مختلفة التوجهات، إلا أنها اتفقت على أن محافظة إدلب هي الهدف الرئيسي من الدعوة لتشكيل هذا "الجيش".
وبالطبع، فإن "هيئة تحرير الشام" تأتي على رأس المتخوفين والمشككين بهذا المشروع، وعليه، فقد كان طبيعياً أن يشن جيشها الالكتروني الفاعل، في مواقع التواصل الاجتماعي، حملة كبيرة ضده.
ولم تقتصر هذه الحملة التي تركزت بشكل خاص ضد "المجلس الإسلامي السوري" على أنصار "الهيئة"، بل إن بعض الشخصيات التي تقول إنها مستقلة، وتنفي أنها مقربة أو مؤيدة لـ"فتح الشام" شاركت في انتقاد "المبادرة"، والهجوم على "المجلس الإسلامي"، واتهامه بالعمل على التهيئة لاقتتال واسع بين الفصائل و"الهيئة" بسبب هذا المشروع.
وفي هذا السياق، قال الكاتب والناشط في الحركة الإسلامية السورية رامي دالاتي، في "تويتر": "إن المجلس يطلق اليوم بيان مبادرة (دون آليات)، باللحظة الخطأ، ظاهره فيه جمع الكلمة، وباطنه تشجيع لاقتتال ثوري داخلي، وانحياز فصائلي واضح".
لكن الهجوم الأقوى من جانب "هيئة تحرير الشام" جاء من قبل عضو المجلس الشرعي فيها الزبير الغزي، الذي اعتبر أن مبادرة "المجلس الإسلامي السوري" تأتي ضد مبادرة "هيئة تحرير الشام" لتشكيل إدارة مدنية للمناطق المحررة. وأضاف الغزي في منشور شديد اللهجة في "تلغرام": "إن المجلس يسعى لهدم كل مشروع يشب عن الطوق ويخرج عن الفطام من رضاع العمالة، فما أن عزمت الهيئة على إعلان مشروع الإدارة المدنية، إلا وسارع هذا المجلس لإعلان مبادرة تحت حكم "الإئتلاف" الذي وصفه الغزي بـ"الخائن". كما اتهم الغزي "المجلس الإسلامي" بـ"التبعية" لتركيا ومشروعها "الديموقراطي المخالف للشريعة"، مهاجماً في الوقت ذاتها الفصائل التي أعلنت تأييد هذه المبادرة، خاصة "حركة نور الدين الزنكي" التي كانت سابقاً جزءاً من "هيئة تحرير الشام" قبل انفصالها عنها في تموز/يوليو 2017.
وإذا كان متوقعاً، وبقوة، هذا الموقف من جانب "هيئة تحرير الشام"، التي تتخوف من تدخل تركي في محافظة إدلب، وتنظر إلى أي خطوة تصدر من قبل قوى المعارضة الحليفة لأنقرة على أنه مشروع يستهدفها، ورغم التطمينات غير المباشرة التي عاد وأكد عليها "المجلس الإسلامي السوري" في بيانه في 5 أيلول/سبتمبر، والذي تلى انعقاد الاجتماع الأول لتفعيل المبادرة، فقد كان لافتاً وجود موقف رافض لها من جانب طيف آخر في المعارضة، معادٍ لـ"تحرير الشام"، لكنه يعتقد في الوقت نفسه، أن المبادرة تقف خلفها "جماعة الأخوان المسلمين"، وأن هدفها هو استبدال سيطرة "الجماعة" بسيطرة "تحرير الشام" على محافظة إدلب، لا التمكين لمشروع وطني. كما ينتقد هؤلاء مجرد تدخل "المجلس الإسلامي" في الشأن العسكري للثورة، ويقولون إنه "يجب أن توكل مهمته للضباط المنشقين الذين جرى تهميشهم عن عمد لصالح أسلمة الثورة".
موقف عبر عنه بأقصى وضوح الرائد خالد العيسى، أحد الضباط المنشقين عن قوات النظام، الذي اعتبر أن تعيين الطبيب جواد ابو حطب وزيراً لدفاع جيش (المبادرة) حتى وإن كان بشكل مؤقت، يعتبر "دليلاً جديداً على وجود فوبيا رعب من الضباط المنشقين".
وأضاف الرائد عيسى، في منشور له في مواقع التواصل الاجتماعي: "إن المجلس الاسلامي لم يطلق المبادرة الا بإيعازٍ وتعليماتٍ (...) خرجت من عباءة الاخوان، القابضين على رقبة الائتلاف والحكومة المؤقتة (...) بغاية حماية دولة ادلب، وحراسة حدود النظام تحت بنود خفض التوتر!". وتابع: "اطلاق هذا المشروع يراه البعض فرصة ذهبية للتوحد، ولن يلبثوا غداً أن يكتشفوا بأن هذا التوحد انما هو توحد لغايات لا تمت للثورة ولا للوطن بصلة، وانما هو توجه لتكريس واقع جديد مفروض، سنكون نحن أدواته!".
لكن رؤية هذا المشروع كـ"فرصة ذهبية للتوحد"، هو واقع لا يبدو بالإمكان القفز عليه، مع تعطش حاضنة الثورة الشعبية لأي مشروع ينجح في الوصول إلى هذا الهدف، الذي طال عليه الأمد، وفشلت كل الجهود من أجل تحقيقه، منذ ست سنوات.
فشل متكرر لم يقض على الآمال بتحقيق الفكرة، وإن كان قد قلّصها إلى حد كبير، وجعل أي مبادرة تلوح بالأفق من أجل إنجاز تشكيل "جيش موحد للثورة"، أياً كان مصدر هذه المبادرة، ومهما كانت الملاحظات عليها، تقابل بالتشجيع، حتى وإن خف بريق هذا التشجيع، واقتصر هذه المرة على الناشطين الثوريين، الذين طالبوا بدعم مبادرة "المجلس الإسلامي" هذه، والانخراط فيها من قبل الجميع، حتى المتحفظين عليها أو المعارضين لها، وعدم الاكتفاء بمهاجمتها من الخارج، إذ يمكن أن تكون فعلاً آخر الفرص الممكنة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها