جاء الإعلان عن مبادرة للصلح بين الجماعات الجهادية في سوريا، التي أطلقها بعض رجال التيار السلفي الجهادي، ليضع حداً للتقليل من أهمية وقيمة الخلافات داخل التيار بسبب التطورات الأخيرة.
ورغم أن المبادرة، التي أعلن عنها الأربعاء، تحدثت عن حلّ شامل للمشاكل بين مختلف الفصائل "التي تسعى لتطبيق الشريعة في بلاد الشام"، بحسب ما جاء في بيان الإعلان عنها، إلا أنه من الواضح أن القضية المركزية لهذه المبادرة، هي الخلاف الحاصل بين "هيئة تحرير الشام" و"القاعدة". خلاف يعتبر الأخطر بالنسبة للتيار السلفي الجهادي، اليوم، خاصة مع انقسام رموز التيار حياله.
صحيح أن الخلاف بين "القاعدة" و"الدولة الإسلامية" في العام 2013، قد تسبب بأول انقسام حاد في التيار، لكنه ظلّ على مستوى الكوادر والقواعد، ولم يتجاوزه إلى مستوى الرموز والمرجعيات، التي اختارت جميعها تأييد "القاعدة".
لكن الخلافات بين مراجع التيار الأشهر إعلامياً، والتي ظلت محصورة قبل ذلك في التفاصيل والجزئيات غالباً، تزايدت بعد ذلك لتشمل قضايا كبيرة ومفصلية. وللمرة الأولى، ظهرت معارك إعلامية بين بعض مرجعيات التيار السلفي الجهادي الرئيسية، بلغت ذروتها مؤخراً بسبب تباين المواقف من "هيئة تحرير الشام" وخياراتها.
سلسلة القرارات التي اتخذتها "جبهة النصرة"؛ من تغيير اسمها والانفصال عن "القاعدة" صيف العام 2016، وصولاً إلى موافقتها على تمركز قوات تركية في محافظة إدلب، وما بينهما، كانت محل جدل قوي في الفضاء الإعلامي للتيار السلفي الجهادي المؤيد لـ"القاعدة". وغالباً ما تباينت مواقف رموز هذا الفضاء الأعلامي المشهورين، بين مؤيد مرّة لهذا القرار، ومعارض مرّة أخرى لقرار آخر. وذلك، باستثناء المرجعين الأبرز؛ "أبو قتادة الفلسطيني"، و"أبو محمد المقدسي". إذ تبنى "الفلسطيني" دعم كل خيارات "أبو محمد الجولاني"، وفريقه القيادي، بينما عارض "المقدسي" هذه الخيارات بشكل كامل تقريباً، باستثناء الهجمات على فصائل الجيش الحر و"حركة أحرار الشام". "المقدسي" و"الفلسطيني" كانا من الموقعين على مبادرة الصلح الأخيرة.
قضية الاندماج بين "جبهة فتح الشام" و"حركة نور الدين زنكي"، كانت قد أثارت جدلاً وتحفظات في التيار السلفي الجهادي، على اعتبار أن "الزنكي" قادمة من خارج التيار. وعارض الداعية المصري طارق عبدالحليم، المقيم في كندا، اندماج "جبهة فتح الشام" مع "الزنكي"، لتشكيل "هيئة تحرير الشام" نهاية كانون الأول/يناير 2017. عبدالحليم كان قد دعم خيار فك ارتباط "النصرة" مع "القاعدة"، قبل أن يعلن منذ أيام تراجعه عن هذا الموقف بعدما ظهرت معارضة زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري، لذلك الأمر، ومطالبته "التنظيم" بعودة "الهيئة" إلى مظلته رسمياً.
المحامي المصري المقيم في لندن هاني السباعي، اتخذ نفس موقف عبدالحليم، في ما يخص مسار تطور "جبهة النصرة" وخياراتها التكتيكية والاستراتيجية، لكن من دون الدخول في معارك إعلامية مع المختلفين معه في الآراء من داخل التيار، إلا ما ندر. معارك يتفوق فيها الداعية الفلسطيني الأردني عصام برقاوي، المعروف باسم "أبي محمد المقدسي"، والذي اتخذ موقف المعارض لقيادة "تحرير الشام"، خاصة بعد إعلانها الانفصال عن "القاعدة".
"المقدسي"، المُنظّر المثير للجدل، كان دائم المناوشة مع بعض قادة "جبهة النصرة"، خاصة أبو ماريا العراقي، لكنه ظل على تأييده لـ"الجبهة" باعتبارها فرعاً لتنظيم "القاعدة". ويعتبر الكثيرون من أنصار "المقدسي" أن وقوفه إلى جانب "النصرة" ضد تنظيم "الدولة" كان عاملاً مهماً في استمرارها ونهوضها، لما لـ"المقدسي" من تأثير كبير على طيف واسع من التيار السلفي الجهادي.
وعلى الرغم من مباركة "المقدسي" لقرار قيادة "النصرة" فك ارتباطها مع "القاعدة"، إلا أنه عاد وغيّر موقفه، متحدثاً عن "خديعة" تعرض لها هو ومن معه من مشايخ بهذا الخصوص.
ومن مقر اقامته الجبرية في عمان، نشر "المقدسي" في مواقع التواصل، خلال الشهور التي تلت إعلان فك الارتباط، سلسلة متفرقة من المقالات والتغريدات هاجم فيها قيادة "هيئة تحرير الشام"، التي اتهمها بالتضليل في ما يتعلق بقضية الانفصال عن التنظيم الأم، وطالب بالعودة عن هذا القرار.
ويبدو أن موقفه من هذا المسألة قد انعكس على بقية القضايا التي كانت حاضرة في مسار "هيئة تحرير الشام" لاحقاً. فعارض "المقدسي"، على سبيل المثال، هجوم "تحرير الشام" على "لواء جند الأقصى" في شباط/فبراير 2017. ودخل بسبب ذلك في مواجهة إعلامية عنيفة مع أنصارها. كما هاجمها بشدة، بسبب عدم محاسبتها القيادي السابق فيها حسام أطرش، على خلفية تصريحاته المؤيدة للتعاون مع "الحكومة السورية المؤقتة"، وصولاً إلى ذروة الخلاف معها، بعد قبول "الهيئة" بدخول الجيش التركي إلى معقلها الرئيسي في محافظة إدلب.
ورغم أنه طلب من أنصاره عدم تكفير "تحرير الشام" بسبب تعاونها مع الحكومة التركية، إلا أن ملخص الكتابات الأخيرة لـ"المقدسي"، يُظهر أن هذا القرار، يمثل انتكاسة مأساوية متوقعة من جانبه لـ"هيئة تحرير الشام"، التي يرى بالمجمل، أنها لم تعد تلتزم المنهج السليم للسلفية الجهادية. وكان لافتاً تكراره استخدام مصطلح "التمييع" ضدها، معتبراً أن العودة تكون أول ما تكون، بإلغاء قرار فك الارتباط بـ"القاعدة"، خاصة بعدما أصبح واضحاً أن زعيم "التنظيم" أيمن الظواهري، غير موافق على الانفصال، كما اتضح في كلمته الأخيرة التي بثتها مؤسسة "السحاب" الإعلامية، وأكد فيها على ضرورة وجود "القاعدة" في سوريا.
وإذا كان زميل "المقدسي" ورفيق دربه التاريخي، عمر محمود عثمان، المعروف باسم "أبو قتادة الفلسطيني"، لم يسجل موقفاً صريحاً من هذه القضية، جرياً كما يبدو على عادته في السنوات الثلاث الماضية، التي لوحظ فيها انسحابه من السجالات الإعلامية، واعتماده لغة هادئة في ما ينشره، إلا أنه كان واضحاً تأييده غير المباشر لخيارات قيادة "تحرير الشام".
"الفلسطيني"، الذي يُتهم على نطاق واسع بأنه المسؤول الأول تاريخياً، عن تشدد التيار السلفي الجهادي وانغلاقه وتعاليه، وعن انتشار فكر التكفير فيه بمساعدة تلميذه أو رفيقه المقرب "أبو محمد المقدسي"، قد بات متهماً اليوم من طيف في التيار بأنه تراجع عن ثوابت السلفية الجهادية. وهو ما يرفضه "الفلسطيني" باستمرار. فانتقد قبل أيام ما دعاه: "الإصرار على اختصار الجهاد والإسلام في جماعة محددة"، في إشارة غير مباشرة على ما يبدو لتصاعد الضغط على "هيئة تحرير الشام" من أجل العودة إلى أحضان "القاعدة".
وفي مواقع التواصل الاجتماعي، أعاد "الفلسطيني" مع مقربين منه، نشر مقتطفات من أحد كتبه يحث فيها ما اسماها "طوائف الجهاد" على تجاوز "رؤيتها الضيقة بأنها هي التي بدأت الطريق، وهي التي يجب أن ترث آثاره"، لأن هذا المعنى يُلغي عالميتها، "فهي قد ترث بنفسها، وقد تأخذ كل إرثها طائفة بغير اسمها وبغير قيادتها، لكنها على طريقتها في أماكن أخرى من الأرض".
إشارة غير مباشرة أخرى، لكنها الأوضح، على تأييد "الفلسطيني" لفك الارتباط، كانت في تكثيف دعواته للتقريب بين جماعات الإسلام السياسي المختلفة، والتي يعرف التيار السلفي الجهادي بمواقفه المعادية لها، خاصة "جماعة الأخوان المسلمين". وظهر ذلك في الاصطفاف القوي والصارخ لتلميذه اسماعيل كلم "أبو محمود الفلسطيني" الناشط المعروف في التيار الجهادي، والذي يعتبره الكثيرون لسان حال "أبو قتادة"، إلى جانب "هيئة تحرير الشام".
ودخل "أبو محمود" في مواجهة مفتوحة، منذ شهور، مع "أبي محمد المقدسي" والتيار الأردني المدعوم من قبله، والمنشق عن "جبهة النصرة"، والذي يقال إنه يقف خلف تشكيل "جماعة أنصار الفرقان" المعلن عنها حديثاً في سوريا، كفرع غير معلن بعد لـ"القاعدة".
آخر الإشارات التي عبّر فيها "أبو قتادة الفلسطيني" عن تفهمه لخيارات "هيئة تحرير الشام" الأخيرة، خاصة اتفاقها مع أنقرة حول دخول الجيش التركي إلى إدلب، فقد جاءت من خلال اللقاء الذي أجرته معه "مؤسسة خير أمة" الإعلامية الجهادية. وفي المقابلة أكد "الفلسطيني" إباحة مثل هذا التعاون لأي جماعة مجاهدة، ما دام الأمر محكوماً بالضوابط الشرعية، ووفق التصورات التي تراها هذه الجماعة، منتقداً "المزاودين" على هذا الخيار ما دام ضرورياً ولا بد منه، من دون أن يسمي أي طرف.
الخلاف لا يمكن نفيه هذه المرة، ورغم أنه ليس الأول بين المرجعين الأبرز حالياً في التيار الجهادي؛ "الفلسطيني" و"المقدسي"، لكنه الأخطر من حيث موضوعه، وإن تجنب فيه الطرفان المواجهة المباشرة، التي سبق ووقعت في بعض التفاصيل المتعلقة بالموقف من "الدولة الإسلامية"، وأدت إلى تنافس بين أنصاريهما حول قيمة كل منهما العلميّة، وقدرتهما على التأثير في الوسط الجهادي، وهي مقارنة تصب غالباً، وإن كان بفارق مُشوّش في صالح "أبي قتادة".
دعم "الفلسطيني"، لا يعني أريحية مطلقة لـ"تحرير الشام" هذه المرة، فقبل ذلك لعب تأييد زعيم "القاعدة" لـ"جبهة النصرة"، وإعلان الأخيرة بيعتها له، دوراً حاسماً في هذا الدعم الجماعي من قبل رموز التيار البارزين. بينما تواجه "الهيئة" اليوم مواقف سلبية من "الظواهري" وقيادة "التنظيم"، التي تضغط من أجل إعادة تفعيل اسم "القاعدة" في سوريا.
وبغض النظر عن القضية مثار الجدل، وعن أطرافها ومواقفهم، فإن الخلاف الأخير داخل التيار السلفي الجهادي، في ما يتعلق بخيارات "هيئة تحرير الشام" ومواقفها وسياساتها، يضع التيار في مواجهة غير مسبوقة ربما. واقع لطالما قرر التيار التعالي عليه وعدم الاعتراف به، والحكم على كل من يحاول مجاراته بأشد الأحكام قسوة. الأمر الذي يجعل من اتخاذ أي موقف حياله مغامرة خطيرة. ومن هذا المنطلق، فقد تشكل مبادرة الصلح المعلن عنها أخيراً مخرجاً مقبولاً للجميع.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها