خطت "جبهة النصرة" أخيراً خطوتها المنتظرة، وسجلت بإعلانها الانفصال عن تنظيم "القاعدة"، سابقة تاريخية بالنسبة لفرع من فروع التنظيم في العالم، بل وقد يشكل الأمر، حسب البعض، بداية تحول يفتح لـ"القاعدة" نفسها، آفاقاً جديدة كان ينقصها شجاعة التحرك نحوها من قبل.
وعلى الرغم من أن ردود فعل لم تكن مشجعة على هذا التوجه بشكل كامل، خلال الأسبوع الماضي، إلا أن إعلان "جبهة النصرة" فك ارتباطها بتنظيم "القاعدة"، أكد أن هذا القرار كان محسوماً، وإن شوشت عليه بعض التفاصيل.
معطيات متعددة تؤكد أن الترتيب لهذا الإعلان لم تغير فيه آراء الرافضين شيئاً، ومعطيات أخرى حضرت في خلفية الإعلان عن فك الارتباط، وسرقت منه بعض الأضواء، أكدت أن هذه الآراء أُخِذَت في الحسبان، شكلياً على أقل تقدير.
فاتساق التسريبات مع ما حصل، الخميس، وفي مقدمتها اعتماد اسم "جبهة فتح الشام" الذي سربته "النصرة" خلال الأسبوع الماضي للإعلام وشكل اللوغو، أكد أن الترتيب للقرار، الذي استغرق وقتاً غير قصير، لم يتأثر كثيراً بالملاحظات والتساؤلات. ومُثل ذلك ظهور قائد الجبهة، أبو محمد الجولاني، كاشفاً وجهه للمرة الأولى، في تأكيد على ما سبق وتم تسريبه من الجبهة أيضاً.
وطبعاً، يصبح من نافل القول هنا، أن الكلمة المقتضبة التي أعلن فيها الجولاني قرار فك الارتباط بتنظيم "القاعدة"، كانت مسجلة قبل الخميس. لكن لا أحد لديه أي معلومات حول ما إذا كان قد تم تعديلها خلال الأسبوع الماضي، بحيث تأخذ في الاعتبار فعلاً، تقديم تطمينات للمعترضين والمتخوفين، داخل صفوف "النصرة"، ومن صقور التيار السلفي الجهادي.
إلا أن الإجابة على هذه الأسئلة القلقة، حضرت بشكل صريح مرة، ومبطن مرة، وفي السياق مرة ثالثة، بحيث أمكن معه القول معه، إن "جبهة النصرة" قالت كلمتها ومشت، بأقل وقت وعبارات، منهية جدل أشهر طويلة، بلغ ذروته في الأيام الماضية.
أما ما كان صريحاً، فقد جاء من خلال قيادة تنظيم "القاعدة"، التي كانت محور أهم التساؤلات، وخاصة لجهة مدى رضاها عما يتم التفكير فيه. وحملت كلمة نائب زعيم التنظيم، أحمد أبو الخير، القول الفصل الذي أكد أن هذا القرار، كان بالتشاور مع قيادة "القاعدة"، وبدعمها ومباركتها.
ورغم بديهية الحصول على هذه المباركة، إلا أن الأمر لم يكن ليحتاج كل هذا التركيز، لولا ردود الفعل السابقة، لأن الجميع يعرف أن العلاقة بين التنظيم الأم وفرعه في سوريا على أحسن ما يرام، إلا أن عدم قدرة البعض في التيار على تصور أي قوة أو جماعة سلفية جهادية، خارج عباءة "القاعدة"، فرضت مثل هذا التركيز.
أما الرد الضمني، فقد حمله مضمون كلمة الجولاني، التي بالكاد تجاوزت 3 دقائق، وأكد فيها التزام التشكيل الجديد بثوابت "النصرة" وسياساتها، والسعي لتحقيق الأهداف ذاتها، بغض النظر عن الارتباط بـ"القاعدة" رسمياً.
إيحاءات أخرى كان هدفها التطمين أيضاً، جاءت هذه المرة في سياق أو خلفية الحدث، وعلى رأسها كان ظهور الجولاني إلى جانب اثنين من أعضاء مجلس قيادة الجبهة، أثناء القائه كلمة الانفصال عن القاعدة. فعلى يمينه، جلس عضو اللجنة الشرعية في "النصرة" السوري أبو عبد الله الشامي "عبد الرحمن عطون" والذي يعرف بأنه من الصقور فيها، وعلى يساره، جلس عضو مجلس القيادة، المصري أحمد سلامة مبروك، في رسالة واضحة على أن الجبهة مستمرة في احتضان المقاتلين غير السوريين، وهي النقطة التي كانت من أكثر ما ركز عليه الرافضون للقرار.
فبينما عبّر الكثيرون من هؤلاء عن تخوفهم، من أن يكون هذا القرار بداية لإنهاء وجود المهاجرين في الجبهة، ومسعى لتعزيز محليتها، على حساب المشروع الجهادي المعولم، صرح البعض منهم بلا مواربة، أن هذا الأمر سيكون مقدمة لتكرار تجربة المقاتلين الأجانب الذين قاتلوا إلى جانب المسلمين في البوسنة. فحذّر الداعية المصري المعروف هاني السباعي من "أن دايتون جديدة ستكون بانتظار العناصر المهاجرين".
وعلى الرغم من الأثر الإيجابي الذي خلفه هذا الظهور الثلاثي، ومضمون خطاب "الجبهة الجديدة"، فإن القضية مع ذلك، تبقى واحدة من المسائل التي لا يمكن حسم الجدل حولها بسهولة. لكن يمكن اعتبار تصريح أحد أعضاء المكتب الإعلامي لـ"جبهة النصرة"، رداً على التساؤلات التي أثيرت حول الموضوع الأسبوع الماضي، والذي قال فيه "إن الكثير من المقاتلين غير السوريين يرغبون بالقتال مع الجبهة، لكنهم يريدون أن لا يرتبط اسمهم بالقاعدة"، يمكن اعتباره تفكيراً خارج الصندوق التقليدي.
وإذا كان من غير الممكن التأكد من وجود هذه الظاهرة بالفعل أو حجمها، فإن ما هو مؤكد، أن عدداً معتبراً من السوريين، سيتشجعون أكثر على الانضمام للتشكيل الجديد، لأنهم لا يريدون بالفعل أن يرتبط اسمهم بتنظيم "القاعدة"، بل من المرجح أن تندمج جماعات سورية متعددة بـ"جبهة فتح الشام" خلال وقت قصير، بما يعوض، من سيخرج منها بسبب هذه الخطوة.
لكن هل كان كل همّ الكلمة، كلمة الجولاني أولاً، وكلمة أبو الخير كذلك، توجيه رسائل إلى التيار السلفي الجهادي فقط وتطمينه؟ بالتأكيد لا، رغم أن مخاطبته احتلت المساحة الأبرز، وهذه إحدى أبرز مميزات خطاب التيار، الذي يعجز بشكل لا إرادي حتى، عن التخلص من قيود الجماعة والتحرر من حدودها، لصالح الإنطلاق في فضاءات أوسع. وهو الأمر الذي كان قد تنبهت إليه كلمة أبو الخير، التي سبقت كلمة الجولاني بساعات، حين أكد على ضرورة الانتقال من "جهاد النخبة إلى جهاد الأمة"، وهي الجزئية التي دُعمت بمقتطف من تسجيل سابق للظواهري، يؤكد فيه على النقطة ذاتها.
مخاطبة الأمة، وليس التيار فقط، كانت سمة واضحة في كلمة الجولاني أيضاً. بل إنه ذهب خطوة إضافية أبعد، يمكن القول إنها غير مسبوقة بالنسبة للخطاب السلفي الجهادي، حين وضع "نشر العدل بين الناس، كل الناس"، وليس بين المسلمين فقط، في عداد أهداف التشكيل الجديد، الذي تم السعي إليه، وفك الارتباط بتنظيم "القاعدة" من أجله أصلاً، للتخفيف على أهل الشام وسحب ذرائع استهدافهم بحجة وجود "القاعدة".
لكن هل التخفيف عن أهل الشام، وهنا ينتقل الحديث بنا إلى أسئلة وشكوك ومخاوف من هم خارج التيار السلفي الجهادي، هل يكفي له فقط فك الارتباط بتنظيم "القاعدة"، وتغيير اسم الجبهة؟ بالتأكيد لا. إجابة لا تحتاج إلى كثير تفكير، بل كانت حاضرة في كل مرة يطرح فيها الموضوع، حيث يؤكد الكثيرون أن فك الارتباط التنظيمي على أهميته، لا يعني سوى خطوة أولى على طريق التغيير المنتظر، أو المطلوب من "جبهة النصرة".
ويضع هؤلاء، كما هو معروف، قوائم من المطالب، تختلف تبعاً لاختلاف توجهات أصحابها، لكن القضايا المتعلقة بالعلاقة مع بقية الفصائل وقوى المعارضة، والمجتمع المحلي وتنوعاته، والحريات والحقوق الأساسية، بالإضافة إلى وقف استعداء المجتمع الدولي، تبقى هي الجامع لكل هذه المطالب.
وبالطبع، وقبل حتى أن ينتهي بث كلمة الجولاني، كانت أقلام جمهور "النصرة" والتيار السلفي الجهادي بشكل عام، تهاجم مخالفي الجبهة من بقية التيارات، وتؤكد أنها لن تنال رضاهم مهما فعلت، مصنفين كالعادة، المطالب المحلية، باعتبارها تنفيذاً "برسم العمالة" لرغبات المجتمع الدولي، وليست نتاج حاجات موضوعية.
وفي الوقت الذي يرد مخالفو التيار، بأن التغيير الوحيد الذي قامت به "جبهة النصرة" بالفعل، كان استجابة للمخاطر الخارجية، بينما أهملت مطالب السوريين. ويعتبر هؤلاء أن هذا يتسق وتصرفات أنظمة "الممانعة"، التي اعتادت ألا تقدم التنازلات إلا للغرب، الذي تشتمه وتقول إنها تحاربه، بينما تتجاهل احتياجات ومطالب شعوبها.
في حين يحاول تيار ثالث التخفيف من حدة التوتر، داعياً إلى الاستفادة مما يوفره هذا التطور من فرص. ويعتبر هذا التيار، أن "جبهة النصرة"، بل وحتى تنظيم "القاعدة" بشكل عام، خطا خطوة ليست بالقليلة، وأن على الآخرين الاعتراف بأهميتها، ومد اليد بالمقابل لأصحابها. وفي الوقت ذاته، يطالب هؤلاء التيار السلفي الجهادي، بالكف عن التعامل مع الآخرين باعتبارهم "أعداء" أو أعداء محتملين، مؤكدين بأنه من السذاجة فعلاً القول بإن مجرد تغيير الاسم، أو إعلان قطع العلاقة بـ"القاعدة"، يكفي لتغيير الحكم على الجبهة، داخلياً ومن قبل المجتمع الدولي.
وعليه، يرى أصحاب هذا التوجه، أنه من المثير للسخرية توقع أن يُغيّر الروس والأميركيون خططهم التي يقال إنها أُنجزت بهدف ضرب "جبهة النصرة"، فقط لأن الجبهة غيرت اسمها، أو أعلنت فك ارتباطها بتنظيم "القاعدة"، وإلا فسيكون من طالبها بذلك غبي أو عميل، بل إن الأمر يحتاج إلى عمل طويل، يبدأ بالتماهي الحقيقي مع القوى المحلية الأخرى، مع الاستعداد لتحمل تبعات التاريخ.
معادلة شائكة، قد لا تكون مشجعة في ظل إغراقها بكل هذه التفاصيل، لكن ليس إذا ما أبدينا اهتماماً، ولو على حذر، بالمعلومات التي تتحدث عن تطورات قادمة، ستكون مبنية على هذا التحول المهم. وفي مقدمة هذه التطورات، التي يقال إنه بدأ العمل عليها مسبقاً، سيكون دخول "جبهة فتح الشام" في تحالفات جديدة، مع فصائل أخرى شمالي البلاد، بتشجيع من تركيا ودول أخرى، بهدف تحقيق اندماج يكفي لمنع استهداف "جبهة النصرة" منفردة من جهة، ومن جهة أخرى، الدفع بعجلة القوة العسكرية للمعارضة نحو الأمام، بعد تراجعاتها الخطيرة مؤخراً، وهو ما يحتاج إلى نضوج هذا التحول داخل "جبهة فتح الشام" بشكل حقيقي.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها