عادت الولايات المتحدة الى الشرق الأوسط، فعاد اللوبي اللبناني السوري في واشنطن الى الحياة. الرئيس السوري بشار الأسد يدرك ان انضمامه إلى التحالف الدولي لمحاربة "الدولة الإسلامية" قد يكون فرصته الوحيدة للعودة الى المجتمع الدولي، وهو ما حدا بنائب وزير خارجيته فيصل المقداد الى القول ان سوريا حليفة أميركا، شاءت أميركا أم أبت.
بدورها، قامت إيران والأحزاب العربية التابعة لها بتحدي "جدية" واشنطن في الحرب على داعش، بدلا من رفض الامبريالية، على جاري العادة، وإدانة تدخلها في الشؤون الداخلية للشعوب.
واللوبي اللبناني السوري هو وريث سلفه اللبناني الذي انشأه قائد "القوات اللبنانية" بشير الجميل، مطلع الثمانينات، وانتقلت ملكيته بعد مقتل الجميل الى رئيس "حزب القوات اللبنانية" سمير جعجع. وأدى رمي جعجع في السجن الى تشتت القيمين على اللوبي القواتي، فارتمت بعض قياداته في حضن خلفه اللبناني – السوري، الذي كان يترعرع في ظل اللقاءات السورية-الإسرائيلية الرفيعة المستوى في العاصمة الأميركية، والتي قادها وزير الخارجية في حينه ونائب الرئيس حالياً فاروق الشرع وخلفه اليوم، والسفير في واشنطن آنذاك وليد المعلم.
وعلى مدى عقد التسعينات، خاض اللوبي اللبناني، وأشهر مجموعاته تلك المعروفة بـ "اميريكان تاسك فورس"، حملات علاقات عامة كبيرة لمصلحة دمشق، ساهمت في زيارة الرئيس السابق بيل كلينتون الى سوريا ولقائه الرئيس الراحل حافظ الأسد في تشرين الأول 1994. كما وضع اللبنانيون في تصرف دمشق أعضاء الكونغرس من أصل لبناني.
ولطالما كان اللوبي اللبناني في واشنطن ذو غالبية مسيحية ويحمل خطاب تحالف الأقليات، على الرغم ان في صفوفه بعض الشخصيات المسيحية ذات التوجهات "القومية السورية" و"القومية العربية".
حتى رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، لم يكتب له دخول هذا اللوبي، فأنشأ شبكة علاقات خاصة به في العاصمة الأميركية، غالباً ما تفوقت على نظيرتها المسيحية، ما زاد في ضغينة الأخيرة تجاه الحريري.
ومع حلول العام 2005، وجد اللوبي اللبناني السوري نفسه في مأزق، فالمسيحيون اللبنانيون – من القواتيين ومن أنصار الجنرال المنفي في حينه ميشال عون –أيدوا خروج الجيش السوري من لبنان، والتزموا قيام إدارة الرئيس جورج بوش بعزل دمشق، ما أجبر السوريون وقومييهم على الابتعاد عن اللوبي اللبناني، وضرب الشلل "اميريكان تاسك فورس"، التي راحت تجير قواها السياسية للتبرع بسيارات للصليب الأحمر اللبناني ونزع الألغام من جنوب لبنان.
لكن الشلل لم يصب الشق السوري من الشبكة، التي راح زعيمها عماد مصطفى، الديبلوماسي البارع وسفير سوريا السابق في واشنطن، يشغلها حتى نجح في تجنيد رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ جون كيري لمصلحة نظام الأسد. ومع وصول الرئيس باراك أوباما الى الحكم، اثمرت حملات مصطفى وتحولت سياسة "الانخراط مع الأسد" الأميركية الى واقع. وربما لو لم يضبط "مكتب التحقيقات الفيدرالي" مصطفى متلبساً في ترهيب مواطنين سوريين اميركيين ابان اندلاع الثورة السورية في العام 2011، لما عينته دمشق سفيرها الى الصين.
ولطالما كانت "حماية الأقليات" العنوان العريض للوبي اللبناني السوري. حتى في وقت انفصاله الوجيز منتصف العقد الماضي، حافظ مصطفى – العلوي المولد – على هذا العنوان، وتواصل مع يهود سوريين من النافذين في الولايات المتحدة، وجند كثير منهم، واستند الى علاقاتهم في إعادة الحرارة الدولية الى دمشق.
و"حماية الأقليات" هي العنوان نفسه الذي استعاده اللوبي اللبناني السوري للعودة الى واشنطن. هكذا، ظهرت "جمعية الدفاع عن المسيحيين"، التي أقامت مؤتمراً تحت هذا العنوان، واستضافت في العاصمة الأميركية رجال ونساء الدين المسيحيين اللبنانيين والسوريين.
وكما في الماضي، غازل أقليو لبنان وسوريا يهود أميركا وأصدقاء إسرائيل من تحت الطاولة لأن اليهود هم، كالمسيحيين والعلويين، أقلية في المشرق. في الجلسات العلنية المفتوح، حصر الاقليون هجومهم بداعش، التي يكاد يجمع الكوكب على ادانتها. أما في الجلسات الخاصة والمغلقة، فوجّه وفد رجال الدين الزائر نقداً لاذعاً لحزب الله اللبناني، ربما لمعرفتهم ان أصدقاء إسرائيل يحبون كلاماً من هذا النوع، وهو أسلوب استخدمه اللوبي اللبناني السوري على مدى العقدين الماضيين.
وللمزيد من الغزل مع الإسرائيليين، وجه منظمو مؤتمر حماية المسيحيين الدعوة للسناتور اليميني الجمهوري، تد كروز، لإلقاء كلمة الحفل في العشاء الرسمي. لكن أصدقاء إسرائيل لا يمزحون. راقبوا الحشد المسيحي وشخصياته ومموليه، عرفوا ان غالبيتهم ممن يعملون ليل نهار على اقناع واشنطن بالانفتاح على ايران ويدعمون "حزب الله". صعد كروز الى المنصة، طوى ورقة الخطاب المتفق عليه ووضعها في جيبه، ورسم خطاً في الرمل: إن لم تقفوا مع إسرائيل، فأنا لن أقف معكم.
لم تثن تلك العثرة الحشد المسيحي. دبر لهم وزير النقل الأميركي السابق، اللبناني الأصل، رأي لحود لقاء مع أوباما حضرته مستشارته للأمن القومي سوزان رايس. ألمح رجال الدين الى خطر المجموعات المسلحة في المشرق وطالبوا بتحالف أميركا مع الحكومات والجيوش النظامية للقضاء عليها. طبعاً هم قصدوا ضمناً ضرورة تحالف أميركا مع الأسد للقضاء على الثوار، لكن أوباما اعتقد انهم يتحدثون عن لبنان. قال لهم إن السلاح يصل الجيش اللبناني في الوقت الذي ينعقد فيه الاجتماع.
انتهى المؤتمر، لكن الحشد لم يتبعثر. هذا الأسبوع يصوت الكونغرس على تخويل وتمويل إدارة أوباما لتدريب وتسليح "المعارضة السورية المعتدلة". مسيحيو المشرق، كالأسد، لا يرون أي فارق. المعارضون في سوريا كلهم داعش. أما إذا وافق الكونغرس وتم تسليح الثوار، وسيطروا على مناطق داعش، ماذا سيكون موقف الثوار من مسيحيي المشرق الذين حاولوا الحشد في واشنطن ضدهم؟ وأي حرف سيرسم "الجيش السوري الحر" على أبواب من طاف العالم لمصلحة الأسد وضد الثوار؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث