رغم تعدد التسريبات في الوسط السياسي المصري، وتحولها إلى طقس عاديّ، وشمولها لجميع الأطراف بلا استثناء، فإن التسريب الأخير لقادة القوات المسلحة، يظل الأكثر خطورة وأهمية وحساسية على الإطلاق.
التزوير بأوامر رسمية
يشمل التسريب سلسلة طويلة من المكالمات، تتجاوز العشر، يحاول فيها مساعد وزير الدفاع للشؤون الدستورية والقانونية اللواء ممدوح شاهين، إنقاذ الموقف القانوني لمحاكمة الرئيس المعزول محمد مرسي، التي تعرضت لخطأ إجرائي فادح، حتى أنه يقول "لو الموضوع ده، طعن فيه مرسي، بكرة هيكون في الشارع".
نعرف من المكالمات أن مرسي قد تم احتجازه بعد 3 حزيران/يونيو في معسكر تابع للقوات البحرية في أبو قير بالإسكندرية، وحين دخل قاضي التحقيق المستشار حسن سمير، المكان أثبت وصفه التفصيلي في المحضر. وبالتالي يمكن ببساطة الطعن بأن مرسي كان في مكان احتجاز غير قانوني، في الفترة التي سبقت نقله إلى سجن طرة.
النائب العام اكتشف المشكلة، ولجأ إلى اللواء شاهين، الذي قام بإقناع قائد القوات البحرية الفريق أسامة الجندي، بتحويل مكان احتجاز مرسي إلى سجن تابع للداخلية، بتخصيص مدخل مستقل له، ووضع لافتة مع عساكر أمن مركزي أمامه.
أما جانب المستندات فقد تولاه شاهين، واتفق مع وزير الداخلية على إصدار قرار بتاريخ قديم، باعتبار هذا المكان سجناً خاصاً تابعاً للداخلية، ونشر ذلك القرار بقانون في الجريدة الرسمية (التي يجب أن تنشر بها القوانين)، بتاريخ قديم أيضاً، تحت اسم "تابع"، ويشير شاهين إلى أن هذا ما كانوا يفعلونه أيام المجلس العسكري بعد الثورة.
واعتنى شاهين أيضاً بتفاصيل دفاتر السجن، التي أثبت بها، بتواريخ قديمة، أن المسجون محمد مرسي دخل هنا بتاريخ كذا.
خلال سلسلة المكالمات، يظهر كل من مدير مكتب الرئيس السيسي، اللواء عباس كامل، ورئيس الأركان الحالي ونسيب الرئيس السيسي، اللواء محمود حجازي، وهما يتدخلان لإقناع قائد القوات البحرية بالتعاون في هذا الموضوع، كما يظهر في التسجيل الأخير صوت الرئيس السيسي شخصياً، وهو يطمئن من ممدوح شاهين: "أنجزتو المهمة؟".
كان من العبارات اللافتة للغاية خلال التسجيلات، أن اللواء شاهين يمزح مع اللواء عباس ضاحكاً: "أي أوامر في التزوير متقلقش.. التزوير على مَيّة بيضا!".
لماذا هو التسريب الأخطر؟
هو الأخطر من حيث المحتوى، فأبرز الأسماء في الجيش المصري بما فيهم السيسي، يتحدثون بشكل اعتيادي جداً عن تعاونهم مع النائب العام للتلاعب بالقانون، وأن هذا قد فعلوه مراراً في السابق.
وأيضاً هو الأخطر من حيث الإختراق، فهو يشمل سلسلة مكالمات لأبرز قادة الجيش كله بما فيها السيسي، كما يظهر به الأصوات داخل المكتب حتى بعد أن يغلق الهاتف. أي أن التسجيل ليس للمكالمة فقط بل لمكاتب القادة. هذه فضيحة صادمة، لا تقارن بالموجتين السابقتين من "التسريبات العسكرية".
التسريبات الأولى كانت في مطلع تشرين أول/أكتوبر 2013، ويُظهر مقطع مصوّر للسيسي في اجتماع عام مع الضباط، يتلقى أسئلتهم. ومن الواضح أن الكاميرا التي تصور هي كاميرا الشؤون المعنوية التي توثيق هذه اللقاءات. أما الموجة الثانية فكانت حوار السيسي مع رئيس تحرير "المصري اليوم" ياسر رزق، حيث شمل التسجيل العديد من المقاطع التي كان يمزح بها السيسي مع رزق، أو يطلب منه عدم نشرها بالصحيفة.
في الحالتين لم يكن المحتوى بالغ الخطورة، كما أن التسريب ممكن من أي شخص في "الشؤون المعنوية" التابعة للجيش، أو في "المصري اليوم". في الحالة الأولى قال مصدر عسكري مجهول للصحف، إنه تم القبض على من سرّبه، وفي الثانية اتهمت "المصري اليوم" أحد صحافييها بتسريبه.
الدفاتر هي الأولوية
يردد المصريون، ساخرين، عبارة "الدفاتر دفاترنا والورق ورقنا"، المأخوذة من فيلم "الزوجة الثانية"، للإشارة إلى سيطرة السلطات على القانون والمستندات لتطويعها كما تشاء. لكن من اللافت للغاية، أهمية وجود هذه الدفاتر أصلاً، وضبط أوراقها وتفاصيلها، في قيم الدولة المصرية ذات البيروقراطية العتيقة. وذلك بعكس دول مثل سوريا وليبيا التي حَكمتها قبيلة أو طائفة، ولم يكن القتل فيها يحتاج أية أوراق رسمية.
بقدر ما يدعو ذلك إلى الفخر بتجذر تاريخ المؤسسات والسجل الحكومي المصري، بقدر ما يدعو للخجل من وصول الدولة إلى مرحلة الديكور الفارغ، الذي يخفي محتوى الحكم القَبَلي نفسه. ونتذكر هنا أن الدولة المصرية تاريخياً، كانت ذات عناية كبيرة بتلك الأوضاع الديكورية، كان مبارك يقيم انتخابات مجلس شعب ورئاسة، ويتشدق مسؤولوه بمدى ديموقراطيتها. وفي البلد قضاء شامخ وأحزاب معارضة ومواد تضمن الحريات بالدستور والقوانين، لكن الواقع أن كل هذا كان يتم تفريغه من مضمونه، مع الحفاظ على "الدفاتر".
الملاحظة اللافتة الأخرى، أن اللواء شاهين لم يفكر في أن يرفع سماعة الهاتف ليأمر قاضي محاكمة مرسي بأن يتجاهل الأمر، بل أنه يراجع أدق تفاصيل المكان والدفاتر، خوفاً من معاينة النيابة لو طلبت المحكمة ذلك. ولا يمكن إرجاع ذلك إلى استقلال القضاء، فالنائب العام أرسل ثلاثة من وكلاء النيابة، ومنهم ممثل الإدعاء، إلى اللواء شاهين ليخبروه بالمشكلة ويجدوا حلاً لها معه.
ومن اللافت أيضاً، أن قائد القوات البحرية رفض كلام شاهين تماماً في البداية، مؤكداً أنه "مينفعش"، فلم يلجأ شاهين ولا السيسي من خلفه لتوجيه أمر صارم له، بل اضطر شاهين ليوسط حجازي وعباس حتى يقنعوه بشكل ودي.
في هذا النمط من الحكم، الذي يعتمد على العمل الجماعي خارج القانون، يصبح لكل شخص منهم قدر من السلطة، وقدر من التحكم في العملية، والقدرة على المساومة أو إفساد الخطط. لا يوجد شخص واحد كليّ القدرة ومعه السيطرة التامة المطلقة.
من فعلها؟
هذه المرة الأسلوب مختلف تماماً، لأن التسجيل يشمل بوضوح الحوارات التي تتم حول ممدوح شاهين، حتى بعد إغلاقه للهاتف أصلاً، بينما لا يظهر صوت الطرف الذي يكلمه في الهاتف، أي أن هناك جهاز تسجيل في مكتبه شخصياً، رغم كل الاجراءات الأمنية.
الاحتمال الآخر، هو أن هناك بعض برامج التسجيل المعروفة والمتداولة، يمكن وضعها على الهاتف الشخصي نفسه، لتسجيل المكالمات بهذه الطريقة، فيبدو صوت الشخص وكل ما حوله واضحاً، بينما يخفت صوت من يكلمه. وهذا يطرح احتمالاً آخراً: أن التسجيل تم من هاتف ممدوح شاهين شخصياً، سواء كان هو من يوثّق مكالماته لسبب ما، أو كان هناك من عبث بهاتفه.
كما أن طريقة اختيار سلسلة التسجيلات بهذه الدقة، لتدور كلها حول نفس الموضوع، عبر مدى زمني طويل، يوحي بجهة خبيرة للغاية في التسجيل والتوثيق، ويؤكد كونه عملاً متعمداً جداً، ومخططاً للغاية.
الناشط وائل عباس، نقل عن مصدر خاص به، أن من فعلها هو اللواء سامي عنان، رداً على رفض لجنة الأحزاب الموافقة على حزبه. لكن آخرين يرفضون هذه الفرضية، لأن عنان كان يود أيضاً الترشح للرئاسة، وتنازل عن رغبته حين قرر السيسي فعل ذلك، ولم يرد وقتها بأي طريقة.
ويعتبر آخرون، التسريب، صفعة من رجال الدولة القديمة في الأجهزة الأمنية، الذين أغضبهم سعي السيسي لتأسيس شرعية مستقلة خاصة به مختلفة عن العودة لعصر مبارك بشكل حرفي. فهو رفض إنشاء حزب سلطة ليجمع رجال الحزب الوطني السابق، كما أطلق تصريحات مفاجئة، منذ يومين، في اجتماع شباب الإعلاميين، قال فيها إن مبارك كان يجب أن يرحل منذ 15 عاماً، وإنه كان يود توريث ابنه، وأن عهده شابَهُ الفساد والظلم.
محاولات إلهاء فاشلة
فور ظهور التسريبات، حاولت الدولة إخفاءها على طريقة "شوف العصفورة"، كما علّق النشطاء، ساخرين. أطلق المذيع المقرب من الأجهزة الأمنية، أحمد موسى، شائعة بأن مبارك مات، لكن تكرار الخبر خلال السنوات الماضية، كلما احتاجت الدولة إلهاء الناس، جعل هذه الوسيلة فاقدة لفعاليتها تماماً. كما نشطت لجان إلكترونية في وسائل التواصل الإجتماعي، لتكرر بأن كل هذا مفبرك من الإخوان، لكن من الواضح أن هذا لم يحظ بالنجاح أيضاً.
طريقة الإلهاء الثالثة، الفاشلة رغم كونها جديدة، هي اتصال الرئيس السيسي بالمذيع أسامة كمال في قناة "القاهرة والناس"، ليتحدث إلى أحد الرياضيين من ذوي الاحتياجات الخاصة، لتنشر المواقع الخبر تحت عنوان "أول مداخلة منذ توليه الرئاسة". لكن ذلك لم يُثر إلا المزيد من السخرية من رواد مواقع التواصل.
طريقة الإلهاء التي لم تستخدم بعد، وربما نشهدها خلال الأيام المقبلة هي التسجيلات المضادة. بعد تسريب حوار السيسي مع ياسر رزق بفترة قصيرة، ظهرت موجة تسجيلات لقادة الإخوان، تسجيل لخيرت الشاطر يهاجم السلفيين في إجتماع إخواني، وتسجيل لمرسي داخل سجنه يتحدث بطريقته المرتبكة المعتادة.
التسجيل مفبرك والدليل "منى زكي!"
آخر فصول المحاولات الفاشلة، لتدارك الفضيحة، تمت صباح الجمعة، فقد صرح مصدر عسكري مجهول لجريدة الفجر، بأن الفيديو مفبرك من الإخوان. وأكد المصدر أن هذا الأسلوب معروف لدى المخابرات، مستدلاً بما أشار اليه فيلم "ولاد العم"، عندما أراد رجل المخابرات الاسرائيلى أن يُسمع منى زكي، صوت خالتها بعد تقليد صوتها!
بالطبع لم يثر ذلك الكلام إلا المزيد من السخرية والرثاء، لمؤسسات دولة تستمر في فقدان المزيد من هيبتها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها