الأحد 2024/05/05

آخر تحديث: 08:57 (بيروت)

في تحديد جنس الاقتصاد السوري

الأحد 2024/05/05
في تحديد جنس الاقتصاد السوري
increase حجم الخط decrease

في سياق الكلمة المطوّلة التي ألقاها رأس النظام السوري، بشار الأسد، خلال الاجتماع الموسّع للجنة المركزية لحزب البعث الحاكم في دمشق، أفرد حيزاً كبيراً لمعضلة تحديد "جنس" الاقتصاد السوري. وطرح الأسد عشرات الأسئلة التي تؤرّق المعنيين بالواقع الاقتصادي السوري الراهن، من دون أن يقدّم أية إجابات لها. وشخّص المعضلات التي تواجه الحكومة، من دون أن يقترح حلولاً. لكنه ألمح للمؤتمرين في حضرته، إلى ذاك المصدر الذي يجب عليهم البحث عن الإجابات، في تجربته. إنه النموذج الصيني.


فمن وحي ذاك النموذج، -الذي اطلع عليه الأسد عن قرب في زيارته إلى الصين في خريف العام المنصرم-، فَطِن رأس النظام السوري، مجدداً، إلى أهمية البعد "الأيديولوجي" والتنظيمي –ممثّلاً في الحزب الحاكم- في سياق مساعيه لاستعادة "شمولية" سلطته في البلاد. وأوضح ذلك في كلمته –أمس السبت- حين نفى أن يكون عصر الأحزاب العقائدية قد انتهى، مؤكداً أننا "نعيش أعلى مرحلة أيديولوجية على مستوى العالم". وانطلاقاً من هذا التوصيف، خلص إلى أن "دور الأحزاب العقائدية وفي مقدمتها حزب البعث في سورية تحديداً هو اليوم أكثر أهمية مما سبق". وأكد مجدداً، على أن البعث هو الحزب الحاكم، حتى لو "لم تعد هناك مادة ثامنة" تنص على ذلك في الدستور. وعلى هذا الأساس، قالها الأسد بوضوح. فالحزب هو من يرسم السياسات، والحكومة تقوم بتنفيذها.


وكان من اللافت في حديث الأسد اعترافه بأن صياغة رؤية للحزب حول القضايا الداخلية، تحديداً، هو تحدٍّ. وهو اعتراف بأن الحزب الحاكم للبلاد، لا يملك رؤية لأكثر القضايا إلحاحاً لدى السوريين، بصورة خاصة، الوضع المعيشي. ورغم أن الأسد حدّد فهم الحزب للاشتراكية، على مقياس فهمه هو، بأنها "العدالة الاجتماعية"، رافضاً التعريفات النظرية التي تقول إنها تعني الملكية العامة للقطاع العام وإلغاء القطاع الخاص، إلا أنه أقرّ بأن حزبه بحاجة لتحديد "نموذج الاشتراكية" الذي يناسب الظروف الراهنة التي تعيشها البلاد. 


وفي خضم ذاك التيه الآيديولوجي، طلب الأسد من نخبة الحزبيين البحث عن نقطة توازن بين الايديولوجيا وبين القواعد الاقتصادية. كي لا يغلب الاقتصاد على الآيديولوجيا، فيتحوّل البعث إلى "حزب رأسمالي". وكي لا تغلب الآيديولوجيا على الاقتصاد، فتتحول سوريا إلى دولة مفلسة. ويقصد الأسد بـ "الآيديولوجيا" هنا، العدالة الاجتماعية، حسب فهمه. مذكّراً بتجربة البعث السابقة، في ظل حكمه، في العام 2005، حينما وصّف جنس الاقتصاد السوري، بأنه "اقتصاد سوق اجتماعي". ورفض الأسد تحميل تلك التجربة أعباء "الأخطاء" و"العثرات" التي مرت بها سوريا، لاحقاً. مؤكداً أن "اقتصاد السوق" يمكن أن يجتمع مع "الاشتراكية"، والدليل في الصين التي "تحولت باتجاه اقتصاد السوق وهي دولة شيوعية اشتراكية مركزية منذ عام 1978".


ذاك الغرام المُستجد بالنموذج الصيني يأتي بوحي من تجربة الرئيس، شي جين بينغ، الذي بدأ ولايته الرئاسية الثالثة –وغير المسبوقة وفق معايير الحزب الشيوعي الحاكم-، في آذار/مارس 2023. والذي لا يفوّت مناسبة دون التأكيد على الماركسية كأساس للدولة الصينية، وعلى التمسك بالاشتراكية "ذات الخصائص الصينية"، في بلدٍ يحوي أكبر عدد من المليارديرات في العالم، ويحتل مراتب متقدمة في قائمة الدول التي تضم أكبر عدد من المليونيرات.


وفيما يراهن الأسد على "البعث" في إعادة بث الدماء داخل شرايين سلطته المهزوزة، بفعل حليفه الإيراني، بصورة خاصة، يضع نصب عينيه، تجربة الحزب الشيوعي الصيني، الذي يغلي بالأثرياء، فيما يلتحف بورقة توت "اشتراكية". وعلى غرار حملات مكافحة الفساد، التي يشنها الرئيس الصيني، كل بضع سنوات، داخل الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة، لتصفية منافسيه وكل من يمكن أن يشكّل تهديداً لاستمرارية سلطته، هكذا أيضاً يقصقص الأسد أجنحة أمراء الحرب وأثريائها –المقرّبين منه-، أو يقصيهم تماماً من المشهد، كلما زاد طموحهم عن الحدّ المسموح به. وكما أن الرأسمالية تجري في دماء الصينيين، رغم انتماء عشرات الملايين منهم للحزب الشيوعي، وفق وصفٍ قديم لرجل الأعمال السعودي، حسين شبكشي، كذلك يريد الأسد للسوريين أن يعيشوا  هذه الازدواجية نفسها. 


وفي خضم هذا الغرام بالنموذج الصيني، نسي الأسد أنه يجلس على كومة خراب صنعها بنفسه، ويعجز الآن عن إقامة أعمدة البناء فيها مجدداً. فهو لا يستطيع حسم الثنائيات المتناقضة، التي تؤرّق صنّاع القرار الاقتصادي داخل حكومته، من قبيل: هل يحافظوا على استقرار سعر الصرف، أم يدعموا الإنتاج؟ وكيف يوازنوا بين الحاجة للتصدير وبين الحاجة للجم ارتفاع الأسعار في الأسواق الداخلية؟ وما المطلوب من القطاع العام: التوظيف ودعم الأسعار، أم الربح؟ وما الشكل الأفضل للدعم الاجتماعي الملائم للتخلص من معضلة الفساد في منظوماته؟ وهل من الأفضل دعم مستلزمات الإنتاج الزراعي، أم دعم الفلاح مباشرة؟


وهكذا طرح الأسد الأسئلة المؤرّقة اقتصادياً، ليحيل الإجابات عليها إلى "النقاش" الذي ينتظره على المستوى الحزبي أولاً، ومن ثم على المستوى الوطني برمته. فهو يملك الإجابات. لكن "القضايا الكبرى التي تمس المواطنين لا تبنى على رأي أمين عام أو رئيس جمهورية"، حسب وصفه! 






increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها