الثلاثاء 2024/04/30

آخر تحديث: 16:03 (بيروت)

"حرب أهلية".. حين يقاتل الأميركيون بعضهم البعض

الثلاثاء 2024/04/30
increase حجم الخط decrease
يواصل فيلم "حرب أهلية"، للمخرج البريطاني أليكس غارلاند، تصدّر شباك التذاكر الأميركي وإثارة الجدل بسبب قصّته الدائرة حول حرب أهلية ثانية بين الأميركيين على خلفية رئيس يواجه انفصالاً من ولايتَي كاليفورنيا وتكساس.

تسويق "حرب أهلية"(*) لا علاقة له بالفيلم نفسه. فالعمل الجديد لأليكس غارلاند ليس فيلم أكشن ولا فيلم حرب بالمعنى الأكثر تقليدية للكلمة. أكثر ما يشبهه هو خيال علمي أبوكاليبتي مروّع، لكن في معظم القصّة تركّز الدراما على الإنسان أكثر من المشاهد عالية التأثير. ستظهر هذه المَشاهد، وستكون مؤثرة للغاية، لكن الفيلم بعيد كل البعد من محاولة تمجيد الصراع المسلَّح. إنه حرب قذرة، غامضة، مفكَّكة ووحشية. ولا أحد يعرف من أي جهة قد يأتي الرصاص ولا الدوافع.

يتميّز "حرب أهلية" بشيء يجعله قريباً من تلك الأفلام الكلاسيكية في الثمانينيات والتي كان على صحافي أو مجموعة من الصحافيين الغربيين أن يحاولوا فيها البقاء على قيد الحياة في إحدى دول العالم الثالث، بعدما استولى ديكتاتور على السلطة، مع العواقب الوحشية والمتوقعة للأمور. الإشارة هنا إلى أفلام مثل "مفقود" (من إخراج كوستا غافراس)، "سلفادور"( أوليفر ستون)، "سنة العيش الخطر" (بيتر واير)، وغيرها من الأفلام المشابهة. المختلف هنا أن مثل هذه الأمور "الفظيعة" تحدث في الدولة "قائدة العالم الحرّ"، الولايات المتحدة نفسها. بمعنى آخر، رغم خيالية السيناريو، فقد تكون هذه هي قصة ذلك البلد في غضون سنوات قليلة فيما لو نجح الاستيلاء على مبنى الكابيتول في كانون الثاني/يناير 2021. يبدو أن الحريات قد ألغيت، ويتجلّى السلام في غيابه، وتدمَّر المدن أو تُحرق. المشهد الأول يبدو أنه يحدث في كوسوفو أثناء حربها الأهلية، لكنها بروكلين دون غيرها من مدن العالم.

مع بداية الفيلم نفهم أن هناك بالفعل حرب أهلية في الولايات المتحدة. انفصلت ولايتان عن "الأمّة" وكوّنتا معاً ما يسمّى بـ"القوات الغربية" (FO). الغريب في الأمر أن هاتين الولايتين هما كاليفورنيا وتكساس، وهما ولايتان كانتا تاريخياً على طرفي نقيض سياسياً (كاليفورنيا "تقدمية" وديمقراطية، في حين أن تكساس "محافظة" وجمهورية). لكن هذا القرار يخلق الانطباع بأن سيناريو غارلاند لا يريد إعطاء أسماء أو أحزاب أو أيديولوجيات للأطراف التي اختارها. أو، بعبارة أخرى، يريد تقديم وضع يجتمع فيه طرفا الطيف السياسي بين الولايات المتحدة على رفض رئيسٍ (نيك أوفرمان) يظهر كديكتاتور منفصل عن شعبه يصرّ على البقاء في السلطة لثلاث ولايات متصلة، بما يخالف الدستور الأميركي.


يبدأ "حرب أهلية"، بشكلٍ مخادع، بمشهد من الحركة والعنف يعمل على التعريف بالشخصيات والعالم الذي تحيا فيه. في خضم قتال فوضوي بين مجموعة من الناس والشرطة، نلتقي بالأبطال: ثلاثة صحافيين يغطّون ما يبدو أنه التقدم الأخير للقوات الغربية في واشنطن العاصمة. لي سميث (كيرستن دانست) مصورة صحافية شهيرة وذات خبرة تعمل لدى وكالة رويترز برفقة صحافي يدعى جويل (البرازيلي فاغنر مورا)، أما الثالث في المجموعة فهو سامي، الزميل المخضرم من "ما تبقى من صحيفة نيويورك تايمز"، ويجسّده ستيفن ماكينلي هندرسون.

تنتهي مواجهات الشارع بانفجار عنيف في بروكلين، حيث تُنقَذ لي من الموت على يدّ جيسي (كايلي سبايني، نجمة فيلم "بريسيلا" الأخير) مصوّرة شابة ومتحمّسة معجبة بـ لي. بعد يوم انتهى الأمر بثلاثتهم يشربون ويدردشون في الفندق الذي توقفوا فيه، وقرّروا قيادة السيارة إلى واشنطن من نيويورك لمحاولة إجراء مقابلة مع الرئيس، واتخذوا منعطفاً طويلاً لأن هناك مناطق كبيرة لا يمكنهم عبورها. وفي الرحلة "تتسلّل" إليهم جيسي الصغيرة التي تحلم بأن تصبح مراسلة حربية.

وهكذا، على طريقة فيلم "القيامة الآن"، سيتعمّق الرباعي الصحافي أكثر فأكثر في "قلب الظلام"، ويقومون برحلة بالسيارة لمسافة حوالى 800 كيلومتر مليئة بالمغامرات المعقّدة، كل واحدة أكثر حدّة وعنفاً من الأخرى. تشبه لي، القائد الحصيف للمجموعة، بينما جويل هو الرجل النشط والمثابر الذي يريد تحقيق المزيد طوال الوقت. فيما يُقدَّم المخضرم سامي كمنارة أخلاقية تقريباً، وهو صحافي من الحرس القديم؛ بينما أصغرهم جيسي، عديمة الخبرة والجرأة، الشخص الذي يخوض أكبر قدر من المخاطر، ويريد الحصول على اللقطات الرائعة حتى لو خدش الرصاص الجزء الخلفي من رأسها.

وهكذا، يعود كاتب سيناريو فيلم "بعد 28 يوماً" ليصنع، بطريقة ما، فيلماً زومبياً قيامياً. الفارق هنا أن هؤلاء الزومبي عبارة عن جيوش يواجه بعضها البعض، ومجموعات كوماندوز يهاجم بعضها بعضا (عن قصد، في كثير من الأحيان ليس من الواضح مَن يهاجم مَن). أناس يذبحون آخرين لمجرد نزوة، ومخيمات لاجئين في خطر، ودائماً مع صحافيينا "الشجعان" في قلب الحدث، من دون الاهتمام كثيراً بسلامتهم. ستبلغ كل هذه السلسلة من المواجهات واللقاءات ذروتها عند الوصول إلى واشنطن، حيث ستبدو الأمور مرة أخرى وكأنها فيلم حركة عنيف، لكنها أقرب إلى أسلوب كاثرين بيغلو، أكثر من أي من تلك العروض الترفيهية التي عادة ما يكون جيرارد بتلر بطلها.

بعيداً من بعض اللمسات الفكاهية غير المتوقعة، فإن "حرب أهلية" فيلم جدّي، وفي بعض الأحيان رزين. في حين أنه ليس من الواضح أبداً أي جانب سياسي يمثّل ماذا، ولا ينحاز الصحافيون إلى جانب أو آخر (ينظرون إلى أنفسهم على أنهم محترفون ومحايدون)، فإن غارلاند يبذل قصارى جهده لإضفاء الطابع الإنساني عليهم وانتقادهم جميعاً تقريباً. مع بعض الاستثناءات الواضحة، فالصحافيون والأشخاص الذين يعبرون طريقه قادرون على اتخاذ مواقف نبيلة وسخية جنباً إلى جانب اتخاذ قرارات قاسية وأنانية.

شيئاً فشيئاً، مع يحدث لهم، يبدو أن الأبطال يفقدون حساسيتهم وإحساسهم بالواقع، ويصبحون أكثر اهتماماً بالحصول على أفضل صورة أو بيانٍ جيّد، حتى أنهم يتنافسون مع الصحافيين الآخرين الذين يعبرون طريقهم. هذا الاغتراب، الذي لا نراه في البداية إلا في الجيوش، في مرحلة ما - هناك مشهد وحشي أساسي بهذا المعنى - ينتقل إليهم أيضاً. في مرحلة معينة، يبدو أن أحداً ليس لديه ما يخسره.

إنها لوحة وحشية، وحكاية تحذيرية، حول ما يمكن أن يحدث إذا استمر سكّان بلد ما في مواجهة بعضهم البعض أكثر فأكثر. ما يمكن أن يبدو في مرحلة ما وكأنه خيال هوليووودي، يبدو في "حرب أهلية" حقيقياً تماماً، وممكنًا، خصوصاً إذا لم يكن هناك حد أدنى من اتفاقيات التعايش بين الأيديولوجيات المختلفة. وهذا ما يحدث في الولايات المتحدة، وما يمكن أن يحدث في أي من بلداننا. وبهذا المعنى، فحقيقة أن أولئك الذين ينافسون حكومة ديكتاتورية ظاهرياً، ينتمون إلى ولايات (وشرائح إيديولوجية) مختلفة تماماً، تبدو وكأنها وسيلة للإشارة ضمناً إلى أنهم لن يكون لديهم خيار سوى الاتحاد في مواجهة مثل هذا التهديد.

يقترح غارلاند نوعاً نادراً من الأفلام ضمن الأنواع التي يتنقل بينها. المَشاهد أطول من المعتاد، واستخدام الصمت صادم، ومزج الصوت لافت واستثنائي، واختيار الموسيقى بعيد كل البعد من أي نموذج كلاسيكي أو معروف (هناك مقطوعات لفرقة Suicide، بصوتٍ خشن وداكن جداً؛ والموسيقى العرضية من تأليف جيف بارو، العضو السابق في فرقة Portishead). لكن ربما يكون الشيء الأكثر إثارة للاهتمام، طريقته في استخدام الموارد الأكثر نموذجية لأفلام الرعب من تلك الخاصة بنوع الحرب التقليدي، قليلاً على طريقة الفيلم الكلاسيكي المذكور آنفاً لفرانسيس فورد كوبولا (أو "فول ميتال جاكيت"، لستانلي كوبريك)، عبر تشويه الواقع وإعطاء الشعور بأن كل شيء ليس إلا جزءاً من كابوس لا يمكن السيطرة عليه.

غير أن غارلاند تهجره البراعة حين محاولته أن يكون ساخراً أو قاسياً بشكل مفرط. في العديد من المشاهد، يبدو أن ما يستقر إليه الفيلم فكرة تقول: لا أحد على حقٍ فعلاً، ولا طريقة ممكنة للخروج من الموقف. قد يكون الديكتاتور قاسياً، لكن كذلك هم الذين يواجهونه. وحتى بعض الصحافيين، الذين يحاولون الحفاظ على مظهر أكثر إنسانية في خضم الفوضى، سيثبتون أيضاً كلبيتهم ووحشيتهم الانتهازية. خلاصة "منبرية" ووعظية نوعاً ما، لفيلمٍ نجح طوال تطوّره في تجنّب الوقوع في فخ إعطاء المُشاهد إجابات مسبقة التحضير. بالنسبة إلى فيلمٍ يحاول طوال معظم وقته، كسر القدرة على التنبؤ واستثمار الغموض بدلاً من اليقين، فإن إيماءته الساخرة والماكرة في النهاية تبدو غير ضرورية، بل أقرب إلى فخٍ ذاتي.


(*) يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية والعالمية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها