محمد صبحي
خلال السنوات الأخيرة، ومع تزايد أزيز الثناء والإشادة في موسم الجوائز الأميركية، كان يمكن ملاحظة ميل الأكاديمية في اختياراتها إلى تتويج بعض الأفلام الأقل حظاً ("مونلايت" في 2017)، أو الأقل استحقاقاً ("ذا شيب أوف ووتر" في 2018)، أو الأقل ضجيجاً ("سبوتلايت" في 2016)، إما لمسايرة مزاج شعبي أو كإيماءة إلى المؤسسة السياسية أو لعتق رقبتها من ديون تاريخية قديمة. ورغم كل الملاحظات والاعتراضات والتفسيرات الممكن إيرادها في هذا الصدد، يُحسب للأكاديمية، رغم كل شيء، ذلك الميل المغامر في اختياراتها لأفلام قد لا يهتم بها سوى أعضاء الأكاديمية والنقاد وبعض السينفيليين، لكنها تظل أفلاماً "فنية" تبقى مع المشاهد بعد أن يخرج من صالة السينما، يفكر فيها ويتفاعل معها، سواء أحبها أو أفاض عليها وابلاً من الشتائم.
إذا كرّمت واحد من أفلام البلوكبَستر (أفلام الإنتاج الكبير والمداخيل الضخمة) تحت مسمّى "الفيلم الأكثر جماهيرية"، فسيكون لديك فيلم واحد على الأقل في الفئات الرئيسية يرغب الجميع في مشاهدته. "بلاك بانثر" أو "سكاي سكرابر" يمكن أن يكون ذلك الفيلم، بالإضافة إلى بعض أفلام "ستار وورز"، وجميع إنتاجات مارفل السينمائية تقريباً. لذلك، كان رد الفعل الغاضب من قبل العديد من صانعي الأفلام، وكذلك أعضاء داخل الأكاديمية. فمع هذه الخطوة المفاجئة، كما هو الحال مع أي شيء آخر، يستمر تكريس القرارات الفوقية المبهمة من جانب الأكاديمية، من دون النظر إلى اعتبارات الاتفاق بين أعضائها أو المخاطرة بسمعة الجائزة نفسها.
كل عام، تُمنح جوائز الاوسكار من قبل أكثر من 8000 عضو في أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية. هدفهم المعلن هو تعزيز الوسيط السينمائي فنياً وثقافياً. الجوانب الاقتصادية ليست في شرائعهم الأساسية. يجب أن تجذب الجوائز، بديهياً، الانتباه إلى الأعمال البارزة فنياً بشكل خاص. من أجل هذا الغرض، تكون الحفلة ضخمة والاحتفال بهياً، لملايين المشاهدين حول العالم، ويلتمع وبريق البهجة في العيون، ويسيل حبر كثير في موسم الأوسكار. سار هذا النهج بصورة جيدة وناجحة لسنوات طويلة، وانعكس ذلك في العوائد المادية لحفلة توزيع الجوائز نفسها. من الرائع أن تقوم بتسويق الحدث بنفسك. خلال العقد الماضي، زادت كلفة الـ30 ثانية في الفواصل الإعلانية بين فقرات الحفلة الأوسكارية ( والتي غالباً ما تمتد إلى 3 ساعات) بشكل مضطرد ولافت، حيث بلغت أكثر من مليوني دولار في 2018، ولا عجب في أن شبكة ABC (الناقلة حصرياً لفعاليات الحفلة) قد مددت زمن نقل الحفلة إلى أربع ساعات إلا قليلاً. لكن ربما لم يأت هذا التغيير بالنتيجة المطلوبة، إذ سجّلت حفلة توزيع الجوائز في 2018 انخفاض معدل المشاهدة بنسبة 19 في المئة. ومرة أخرى، تظهر مشكلة اقتصادية جديدة: حفلة الأوسكار صارت طويلة للغاية، وغير ذات صلة بالمشاهدين.
لذا يجب أن تكون الحفلة أقصر، لا تزيد مدتها على ثلاث ساعات، وهذا ما أقرّته الآن قيادة الأكاديمية نفسها. ثمة أخبار أيضاً عن ضغوط تُمارس على الأكاديمية من قبل القناة التلفزيونية، المملوكة لمجموعة شركات ديزني. وحقيقة أن الأكاديمية لم تعد تريد التركيز على الجانب الفني من الإنتاج السينمائي، باختيار التشديد على الجانب التجاري منه، ربما يمكن رؤيتها من خلال معطيات توابع قرارها الأخير، وهو أن القرار لم يحظ بموافقة جميع الأعضاء. لكن الأهم من ذلك، هو تمرير القرار وجعله أمراً واقعاً ابتداء من حفلة الأوسكار المقبلة، ما يؤذن بمستقبل قريب تُمنح فيه جوائز أوسكار ضمن سلسلة طويلة من الفواصل الإعلانية، ثم في وقت لاحق، يُذاع فيديو مجمّع لكل هذه الجوائز ويُنشر في "يوتيوب" أو يملأ دقائق البث على الشاشة، بصورة لن تبتعد كثيراً عن الدقة إذا ما قورنت بما يحدث في المسلسلات العربية المذاعة في شهر رمضان. هذا، فقط، ما يُفِّسر تقديم جائزة الأوسكار الجديدة: المُشاهد، هو قبل أي شيء، مُستهلِك.
في النهاية، لا ينبغي الشعور بأي سوء تجاه الأمر، لأن جوائز الأوسكار، وعبر عقود طويلة، لم تكن مخلصة تماماً للفني والاستثنائي، بقدر ما حافظت على زخمها وشهرتها و"جماهيريتها"، بتوليفة ترشيحات وأسماء وبهرجة إعلامية تضمن حفظ مكانتها بين الجوائز الأرفع شأناً. ولا بد من قبول فكرة أن جوائز الأوسكار هي ببساطة أكبر حدث تسويقي في صناعة السينما. أما بالنسبة للأكاديمية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت التغييرات الجديدة قد أضرت بشكل أكبر بسمعتها –السيئة أصلاً- في المناقشات حول "الأوسكارات البيضاء للغاية" #OscarsSoWhite ونسبة النساء المرشّحات للجائزة في مختلف فئاتها. أيضاً هناك أسئلة أخرى تتعلّق بالكيفية والمعايير التي ستُمنح على أساسها الجائزة الجديدة. كل هذا ليس معروفاً بعد. الحل الأسهل، ربما، أن تفعل الأكاديمية مثل العديد من المهرجانات السينمائية أو جوائز الفيلم الأوروبي، ويكون الجمهور هو مقرر الجائزة بالتصويت. ومع ذلك، إذا كان أعضاء الأكاديمية يرغبون في إنجاز المهمة من دون تعب، فهناك على سبيل المثال حل سريع وسهل يتمثّل في اختيار الفيلم الأكثر شعبية على أساس مبيعات تذاكر السينما.
أخيراً، هي جائزة للمال، فقط. تكريم لن يكون بلا معنى فحسب، بل إنه يلقي الجمهور في جحور الأغبياء.