السبت
2013/03/02
لا نعرف إن كان قد بقي شيء من العالم الذي رغب محمد عيتاني في إبقائه حيّا، أو متذكَرا على الأقل. حتى البعض منا، الذين عاشوا مشاهد أخيرة منه، أخذهم تذكّرهم إلى فترات لحقت: سنوات الستينات مثلا، هذه التي بُذل لإحيائها حبر كثير. وقد شارك محمد عيتاني نفسه في ذلك، إذ لم يُبق قصص كتابه في سنوات العشرينات والثلاثينات القديمة، بل إنّه بلغ تلك المواجهات بين الدرك وأهل الأوزاعي، المقيمين بيوتهم في ملك الغير. وكان أوّل هذا في سنوات الستّين، حين كان يمكن حينذاك الإنحياز لأحد الطرفين: إما الدرك وإما أهل الأوزاعي.
أما ما كان مفتونا به عيتاني حقا فهو ما ظلّ باقيا في راسه، وقلبه أيضا، من أيام طفولته: البحر وصيّادوه وسمكه، وشجر الجميز والتوت والتين، ودروب رأس بيروت التي تغيّرت خريطتها الآن وتغيرت أسماء أماكنها أيضا. كما كان مفتونا بالنساء اللواتي يتكرّر وجودهنّ في القصص، كما لو أنّه، هو الكاتب، نسي أنّ جمّول صاحبة الزنزوقة مثلا قد حضرت، بتعريفها ووصفها الكاملين، في قصّة سبقت في أوّل الكتاب. زهنّ، نساء بيروت القديمات، كثيرات في القصص، إلى حدّ أنّ عيتاني إستعار، لوصفهنّ جميعا، واحدة واحدة، كلّ ما حوته مشابهات النساء بزهر الشجر وثمره وقدّه، كما بألون الشروق والغروب.
وكلّهن جميلات في كتابه، باستثناء القليلات اللواتي منهنّ جمول التي لا يقلّ كفّها خشونة عن سطح المبرد. وفي ذلك العالم الواسع من النساء، ذلك الذي اختلط بع الولد الصغير، بدت كلّ واحدة قادرة على أن توقظ شهوته التي لم تستفق بعد. لا يهمّ إن كنّ سمينات أو نحيلات، كثيرات الكلام أو منزويات. حتى أنّ الولد قد يعشق امرأة في عمر أمّه، وقد تبادله هي العشق، لكن إلى حدّ ما تستلقي له على الفراش عارية وتقول له تعال يا حبيبي، فيتردّد ويستنكف، ذاك لأنّه تذكّر سيرة بطله البيروتي ماجد الأزهري، الذي كان مناضلا وشاعرا في الوقت نفسه.
ألعالم مقسوم قسمة سهلة في القصص، فهم إما أغنياء وإما فقراء. كانت هذه ترسيمة ذلك الزمن، وخصوصا ما كانه محمد عيتاني في إبّانه. لكن، في أيّ حال، لا ينبغي لمن يقرأ "أشياء لا تموت" أن يلزم جانب النقّ فيقول إنّ العالم ليس بسيطا هكذا، حتى في تلك الأيام. ما هو جميل ومدهش في الكتاب هو ذلك العالم الزاخر بالحركة وبالخبث الخفيف وبالقدر الرحوم الذي يخفّف عن الناس ضرباته القاسية، فيدخل إليها النكتة أو يطوي صفحتها بتفصيل يُنسيها. ومحمد عيتاني لا تفارقه النكته فهو لا ينتظر مناسبة لقولها حتى يقولها. بل إنّها تفلت منه، هكذا، مثل من يسبقه لسانه، كما يقال في الأمثال التي يكثر من ذكرها في قصصه، فيبدو كأنّه يفعل ذلك بقصد إعطائها زمنا إضافيّا تعيشه.
إلى الأمثلة، هناك الكلام التي جاءت الأمثلة من صلبه. الكلام البيروتي الذي لا يقلّ حضوره عن حضور النساء. ألكلام العادي، لكن الباقي طازجا وحلوا على ألسنة النساء خصوصا، ألكلام المتاح لهنّ في العشيّات حين يجلسن لتركيب المقلة على من لسن حاضرات بينهنّ.
سبق لي أن قرأت الكتاب في طبعته الثانية التي صدرت عام 1987، وما زلت محتفظا بها، فاقدة غلافها ومنشطرة إلى نصفين وحائلة الحواف لكثرة ما قلّبتُ صفحاتها خلال هذه السنين. ربما كان الحنين هو الذي يعيدني إلى الكتاب، قراءة، وتذكّرا أيضا لما أحفظه مما قرأت. فالوقائع التي يصوّرها الكتاب ليست لوحات ورسوما فقط، بل حياة نابضة زوّدها محمد عيتاني بأكثر الخيالات قوّة.
ألآن، بعد 25 سنة يعود "أشياء لا تموت" إلى الظهور في طبعة جديدة (عن دار الفارابي نفسها) معيدا لقراء جدد ما يخطر في بالنا أن نقول إنّه زمن بيروت الأول، كما لو أنّه الأول حقا، وكما أنّ شيئا لم يسبقه.