وليد بركسية
لا تختلف مشاهد الانتهاكات وجرائم الحرب المرتكبة في منطقة عفرين شمال غربي سوريا، التي تكثفت مشهديتها طوال الأسبوع الماضي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن مشهدية العنف الدامي الذي طبع حياة السوريين في أي منطقة أخرى طوال سنوات الحرب، وكأن قدر السوريين تحول بشكل منطقي إلى لعنة جعلتهم متناوبين على لعب دور الضحية والجلاد مرة بعد مرة، منهين بيدهم حلم الثورة السورية التي كانت في بداياتها قادرة على خلق مستقبل ديموقراطي أفضل لكل السوريين.
وتحيل كل صورة أو مقطع فيديو من عفرين إلى مشهد مماثل في الذاكرة السورية، وبالتحديد المقطع الذي يظهر فيه مقاتل سوري في القوات السورية الموالية لتركيا، وهو يسأل رجلاً أيزيدياً في إحدى قرى عفرين، عن عدد ركعات الصلوات الإسلامية؟ والتي تذكر بجريمة قتل ثلاثة مواطنين سوريين "من الطائفة العلوية" من سائقي الشاحنات في آب/أغسطس العام 2013 على يد تنظيم "داعش" حديث النشأة أنذاك، بعد استجوابهم عن عدد ركعات كل صلاة.
فيضان الصور الآتية من عفرين، يشمل موجة من إجبار المدنيين على التقاط صور "سيلفي" مع المقاتلين السوريين، والتي تذكر بتصرفات جيش النظام السوري وإجبار المدنيين على الظهور عبر الشاشات الرسمية، وتحديداً بعد معركة أحياء حلب الشرقية العام 2016، أما ما كتبه جندي تركي في بلدة راجو: "لا أعرف من احرق روما، أما راجو فنحن أحرقناها"، فتذكر بتصرفات الجنود الروس ومقاتلي حزب الله المماثلة في مناطق سورية كالزبداني والقصير على سبيل المثال. يضاف إلى ذلك العديد من مقاطع الفيديو التي تظهر نهباً للممتلكات الشخصية وحرقاً للأعلام الكردية التي لا تتبع حزبا معيناً، وغيرها.
اللافت أن حجم التغطية الإعلامية التي تحظى بها عفرين في الإعلام العالمي تبقى ضئيلة مقارنة بالغوطة الشرقية رغم أن مستوى العنف متماثل تقريباً، حيث تشير مصادر حقوقية وطبية إلى أن المعارك أدت إلى مقتل نحو 220 شخصاً وجرح نحو 600 آخرين الأسبوع الماضي فقط، وهو ما لفتت إليه صحيفة "إندبندنت" البريطانية"، علماً أن انعدام التوازن في التغطية الإعلامية بشأن سوريا ليس جديداً، ويمكن تلمسه مثلاً في التغطية الواسعة المواكبة لحصار حلب وخروج السكان منها وتسليمها لقوات الأسد المدعومة من روسيا العام 2016 وبين انعدام التغطية لاقتحام الرقة عاصمة تنظيم "داعش" والتي عانت من خسائر فادحة بين السكان المدنيين بسبب القصف الذي قامت به القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة.
والحال أن المشهد المؤسف الذي آلت إليه الثورة السورية السلمية يتلخص بعبارة واحدة: "سوريون يقتلون بعضهم"، وزادت حدة وضوح هذه النتيجة في الأشهر الأخيرة بعد هزيمة تنظيم "داعش" وانحساره عن مناطق واسعة في البلاد ما أعاد الصراع السوري إلى حالته الأولى كحرب أهلية، لكن مسار الحرب نفسه ودخول قوى إقليمية وعالمية متعددة إلى الصراع، جعل الأطراف السورية مجرد قوات وكيلة متصارعة، ويبرز ذلك على محورين متوازيين، الأول في الغوطة الشرقية، وهو متكرر يقوم فيه النظام السوري بقتل المدنيين مثلما فعل بدم بارد طوال السنوات الماضية لتثبيت نفسه في السلطة، والثاني في عفرين التي قد تتطور فيها الكارثة الإنسانية إلى ما هو أسوأ مما حدث في حلب العام 2016.
وإن كان النظام لا يشارك تقنياً في المعارك الموجودة في عفرين، إلا أن جرائم الحرب تبقى موجودة من أطراف أخرى، بشكل يثبت أن دوامة العنف السورية تغذيها تيارات مختلفة، إثنية ومذهبية وسياسية وإقليمية، لتؤدي إلى النتيجة المحتومة نفسها المتمثلة بتعذيب مزيد من السوريين على يد سوريين آخرين، مع التسليم بانتهاء الثورة السورية منذ سنوات، بعوامل متعددة منها عسكرة الإسلاميين الذين يلعبون البطولة في العديد من المقاطع الآتية من عفرين والذين شكلوا كتائب تماهى الكثير منها إلى حد كبير مع التنظيمات التكفيرية مثل "داعش" و"القاعدة"، وبعضها تمايز عنها في الوقت نفسه، ناهيك عن إحجام الولايات المتحدة عن دعم تلك الجماعات المعارضة للنظام، وتوجيهه نحو دعم الأكراد أنفسهم كشريك ضد "داعش".
ومع تغير ديناميات الحرب السورية بسرعة يصبح الانتقام محركاً أساسياً للعنف، وهو ما يتجلى في تصريحات بهذا المعنى لمقاتلين سوريين موالين لتركيا لصحيفة "واشنطن بوست" بموازاة عدد من مقاطع الفيديو التي يناقش فيها مقاتلون خططاً لنهب المنازل في عفرين من مبدأ "العين بالعين والسن بالسن"، أي رداً على المعلومات المتداول بشأن انتهاكات كردية سابقة في مناطق عربية، كما أن بعض المقاتلين يظهرون نوعاً من الإحباط بعد الفشل في إسقاط النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، ما أدى لتحويل غضبهم الداخلي نحو البديل الأقرب، أي الأكراد، ما تجلى بصور وشعارات رفعت عبر مواقع التواصل، لثوار يرغبون فقط في الاستمرار بالقتال، آتين من مناطق بعيدة كحمص على سبيل المثال.
وهنا، تقول مجموعات مراقبة وسكان محليون أن القوات الكردية دمرت عدداً من القرى ذات الأغلبية العربية في محافظة الحسكة الشرقية أثناء اشتباكها مع "داعش"، وسعت إلى إبعاد بعض المدنيين العرب من ديارهم انطلاقاً من خشية أن يوفروا ملاذات آمنة للمقاتلين المتطرفين إذا سمح لهم بالبقاء، لكن مدى هذه الانتهاكات مازال غير واضح.
ويجب القول هنا أن سوريا التي مزقتها الحرب، توقفت عن الوجود كدولة بالمعنى الطبيعي لصالح تحولها إلى ساحة معركة يتبادل فيها الأطراف الولاءات والتحالفات. ووفق المشهدين المتوازيين في عفرين والغوطة، لا يبدو أن الديناميات التي تقود الصراعات المتداخلة في الحرب السورية، تتجه إلى نهايتها، وحتى لو كانت كذلك فإنها لن تولّد مستقبلاً سلمياً ومنظماً للسوريين الذين يعانون معاناة طويلة. وبدلاً من ذلك، تنشأ صراعات جديدة فوق أنقاض الصراعات القديمة، مدفوعة بهذه الكمية من الدم السوري المسفوك الممتزج مع غضب وأحقاد تاريخية، ما يخلق شكاً عميقاً في ما إذا كان المشاركون في الحرب السورية قريبين فعلاً من "استنزاف أنفسهم".
في ضوء ذلك، لا تدع كمية الفظائع المتوالية منذ العام 2011، من أي طرف كان، مجالاً كبيراً للغفران والمصالحة. وحتى لو انتهت الحرب السورية، بالاسم، فستبقى آثارها النفسية والاجتماعية ماثلة لأجيال، كأحقاد لا تموت. هذا، إن تخلت الأطراف المتنازعة عن فكرة القتل الجماعي والرغبة في إبادة الآخر وتصفيته كحل ينهي تلك "المشكلة البسيطة"، مع إدراك كل طرف بأن الطرف الآخر لا يمكن أن يغفر له مستقبلاً.