الأحد 2020/06/07

آخر تحديث: 08:18 (بيروت)

محسن إبراهيم:الحكاية المفقودة

الأحد 2020/06/07
محسن إبراهيم:الحكاية المفقودة
محسن ابراهيم وياسر عرفات (انترنت)
increase حجم الخط decrease
تبدأ الحكاية في صيف العام 1973، عندما دخل الرفيق محسن إبراهيم على زعيم حركة "فتح" ياسر عرفات، الذي كان معتزلا في عليّة مسكنه في حي الفاكهاني في بيروت، ليسأله إذا كان ينوي تشكيل وفد للذهاب الى سوريا لشكر رئيسها حافظ الاسد على إعادة فتح الحدود اللبنانية السورية، بعد إغلاقٍ دامَ نحو مئة يوم، وأُشيع في حينه أنه كان دفاعاً عن المقاومة الفلسطينية التي كانت تخوض معارك واسعة مع الجيش اللبناني.

حاول عرفات، الذي لم تكن قد مضت بضع سنوات على إعتقاله وعدد من قياديي حركة فتح في دمشق بواسطة وزير الدفاع حافظ الاسد، التملص من الرد، ثم توجه الى أبي خالد بالقول :إذا كنتم تريدون الذهاب الى سوريا، لا تسألوني، ما شأني أنا بهذا الامر الذي يخص العلاقات اللبنانية السورية؟ لم تغلق الحدود من أجل الثورة الفلسطينية، ولم تفتح من أجلها ايضاً..

ظل عرفات معتكفاً لأيام بينما كانت دمشق تغص بالوفود اللبنانية الرسمية والحزبية والشعبية، لشكر القيادة السورية، التي تبين في ما بعد أنها انتهزت فرصة الاشتباك اللبناني الفلسطيني لكي تضغط على السلطة اللبنانية من أجل إسكات المعارضين السوريين المقيمين في لبنان، ومن أجل تنظيم العمالة السورية وحقوقها، ومن أجل تسليم مطلوب بتفجير مطبعة ..

ظل أبو خالد حتى الممات يحفظ ذكرى تلك الواقعة التي تضيء على زاوية مظلمة من العداء المستحكم بين القيادتين السورية والفلسطينية، والذي دفع الفلسطينيون ثمنه باهظاً جداً، وما زالوا، مثلما دفع اللبنانيون ثمنه مضاعفاً جداً ، وما زالوا ربما، لاسيما منهم الذين "حملوا على ظهرهم" القضية الفلسطينية وشعبها وثورتها، ورفضوا إنزالها حتى الرمق الاخير.

على رأس هؤلاء، كان أبو خالد. حسم خياره من اللحظة الاولى، وحافظ عليه حتى إعتزاله في "عليّة" منزلية مشابهة، بعدما سلم ب"الهزيمة المزدوجة" أمام اسرائيل عندما إجتاحت العاصمة بيروت في العام 1982، وأمام سوريا عندما دخلت الى لبنان مراراً وتكراراً منذ صيف العام 1976 حتى خروجها العسكري الاخير في ربيع العام 2005.   

طوال فترة الاعتزال  الذي إمتد حتى رحيله، كان ابو خالد بمثابة "حاجز معنوي" على طريق المصنع المؤدي الى دمشق. يقطعه، أو يحاول أن يقطعه، أمام الرفاق والحلفاء والاصدقاء الذين خانتهم الذاكرة، وغاب عن بالهم ما فعله النظام السوري بحق اليسار اللبناني وبرنامجه الرابح حتى لدى الاوروبيين والاميركيين والروس، وبحق القضية الفلسطينية ومخيماتها اللبنانية (ثم السورية لاحقا)، فضلا عن الانشقاقات والشروخ العميقة التي أحدثها ذلك النظام في الجسمين الفلسطيني واللبناني على حد سواء.

عن ذلك الفصل من سيرة ابي خالد، سكَتَ جميع الذين بكوه ونعوه ورثوه. كأن الرجل الذي ناضل ضد ذلك النظام مثلما قاتل ضد العدو الاسرائيلي، ما أطيح به من موقعه اللبناني والعربي المميز إلا صدفة..وما كانت "هجرته"السياسية مع القيادة الفلسطينية عندما غادرت بيروت في أيلول العام 1982 إلا سياحة، أو حتى إنحرافاً إتهمه به كل من إختار  السير على طريق دمشق..لأنه ساعد في إتفاق أوسلو الذي "أعاد نحو نصف مليون فلسطيني من الصومال والسودان واليمن وتونس وغيرها..الى الداخل الفلسطيني وجواره، بعد تهجير دامَ نحو عشر سنوات، لكي يكملوا الصراع، بدل أن يتحولوا الى مبعدين دائمين لا تربطهم بفلسطينهم وبقيادتهم سوى دورات تدريبية على إنتاج المشغولات اليدوية والمطرزات وتصميم الرقصات الشعبية"..

حاول أبو خالد العودة أكثر من مرة من "هجرته" الفلسطينية، الى الداخل اللبناني، في خطابين شهيرين أحدهما في وداع رفيق الدرب الاقرب جورج حاوي، وجه فيهما النقد الذاتي المطلوب لما كان يعتقد أنه يطوي صفحة الحرب الاهلية ويسهم في التأسيس لمرحلة وطنية لبنانية ما، لكنه شعر على الفور أن الاوان قد فات على مثل هذا الحلم. فلبنان الذي يتمناه يبتعد أكثر فأكثر، وسوريا التي تناهض ذلك اللبنان ما زالت مقيمة هنا، وإسرائيل التي تهدد ذلك اللبنان لم تخرج تماماً ، وفلسطين التي لم يعد لها ذكرى طيبة في ذلك اللبنان، صارت خارج المكان والزمان.

لا يجوز وداع محسن إبراهيم بغير تلك الذكريات بالتحديد. التاريخ لا ينسى ولا يرحم. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها