السبت 2020/08/15

آخر تحديث: 16:30 (بيروت)

يزن نجدة أنزور.. وراثة "الفن" بكامل خُبثه

السبت 2020/08/15
يزن نجدة أنزور.. وراثة "الفن" بكامل خُبثه
increase حجم الخط decrease
قبل سنوات، كان المخرج السوري نجدة أنزور أول من يسارع إلى استخدام المدن التي دمرها النظام السوري فوق رؤوس أصحابها، كديكورات رخيصة (بمعنى انها بلا كلفة على الانتاج) لمسلسلاته التلفزيونية التي ينقل فيها وجهة نظر سياسية منحازة ومزيفة حول الثورة في البلاد. واليوم يتبع ابنه المخرج يزن أنزور، الأسلوب نفسه، بطرحه فيديو كليب لأغنية تدعي التضامن مع العاصمة اللبنانية بيروت التي هزها انفجار هائل الأسبوع الماضي، راقصاً فوق جثث الضحايا، ليس لإيصال رسائل سياسية بالضرورة، بقدر ما هو استثمار في مصائب الآخرين من أجل قليل من الشهرة.

وفيما تمتلئ الأغنية التي حملت عنوان "بيروت ما بتموت"، بالكليشيهات والموسيقى الحزينة، تشارك في أدائها ثلاثة أسماء مغمورة هي سارة درويش وأحمد حلاق وماهر منصور، وتم تقديمها على أنها صوت السوريين الموالين للنظام والمتضامنين مع "بيروت المقاومة"، وهو الوصف الذي اعتمده الإعلام الرسمي في حديثه عن المدينة المنكوبة، بالتفريق بين اللبنانيين المؤيدين لمحور الممانعة وحزب الله، وبين اللبنانيين الآخرين المعارضين لهذا المحور، والذين تم وصفهم بالخيانة والعمالة والضلوع في تنفيذ الانفجار بناء على أوامر "صهيونية".



والأغنية التي طرحت بعد أيام من الانفجار، من كلمات أيمن مارديني وألحان شادي جارور، ومن إنتاج شركة "يالا ميديا نيتوورك" التي عرفها السوريون مؤخراً في قضية حذف موقع "فايسبوك" لمقاطع الفيديو والصور التي توثق المظاهرات التي خرجت في محافظة السويداء جنوب البلاد قبل أشهر، مطالبة بإسقاط النظام مع اشتداد الأزمة الاقتصادية في البلاد. حيث قامت الشركة المذكورة، ومقرها في لندن، بادعاء ملكية حقوق النشر لتلك المقاطع، بشكل غير قانوني، مع الإشارة إلى أنها أنتجت قبل الآن عملاً تلفزيونياً واحداً هو مسلسل "لو مثلاً" للممثلين زهير عبد الكريم وأندريه سكاف.

ورغم أن الشركة تقدم نفسها كمنصة إعلامية عربية مستقلة، إلا أن ولاءها السياسي يميل مع الحكومة السورية. ولديها محتوى مكون من اسكتشات مسرحية وأغان مزعجة لفنانين ومخرجين سوريين، ومنها اسكتشات تعود للفنان بشار إسماعيل الذي عبر عن دعمه علانية للرئيس بشار الأسد وانتقد بشدة المعارضة.

وعمل يزن أنزور (40 عاماً) في الإخراج مثل والده، وهو تيار بات رائجاً في سوريا الأسد حالياً، ويتم فيه تعميم حالة التوريث الفني في البلاد بموازاة التوريث السياسي، حيث ينشط في الوسط الفني عدد من أبناء الممثلين والمخرجين المعروفين في الدراما السورية (طلحت حمدي، صباح الجزائري، غسان مسعود، ...). وقدم يزن مجموعة من الأفلام القصيرة مع "المؤسسة العامة للسينما" التابعة لوزارة الثقافة، من بينها فيلم "تاتش" العام 2018 الذي لاقى سخرية واسعة، حيث حاول فيه سرقة أفكار من سلسلة "بلاك ميرور" البريطانية الشهيرة.

وفي مسألة الأغنية التي تفاخرت الصفحات الموالية للنظام بأنها صورت "بعد 25 ساعة فقط" من انفجار بيروت، يمكن القول بسخرية أن "من شابه أباه.. ما ظلم"، فنجدة أنزور الذي يعتبر المخرج الأول لنظام الأسد، وعضو مجلس الشعب السوري، كان أول من استحدث فكرة الخراب في البلاد كديكور رخيص، وكانت مدينة داريا العام 2013 المكان الذي صور فيه ثلاثية من سلسلة "تحت سماء الوطن"، وعندما سألته شبكة "سي إن إن" حينها: "هل فكّرت في شعور من يمكن أن يرى منزله المدّمر في خلفية مشهدك الدرامي؟" أجاب: "لقد ذهبت الى داريا لأبحث بين الأنقاض عن أمل. هذه المنطقة جزء من الوطن ومصابها، هو مصابنا جميعاً"، معتبراً أن الهجوم عليه "يصب في اطار الحملة الاعلامية المتطرفة التي يتعرض لها الوطن".

وإن كانت الأغنية نفسها لا تقدم رسائل سياسية مباشرة، فإن تتبع النقاشات التي أثيرت حولها في الصفحات الموالية ولدى أصحابها، تحيل إلى السياسة حكماً، حيث يتم لوم الغرب والعقوبات وترويج نظريات المؤامرة، عند الحديث عن أزمات بيروت ودمشق. كما أن تتبع صفحة يزن أنزور نفسها في "فايسبوك"، تظهر كمية البروباغندا الرسمية التي ينشرها، والتي وصلت في حالة بيروت، إلى تقديم محاضرات في الوطنية والأخلاق عند التعليق على تصريح الممثلة اللبنانية نادين نجيم التي قالت بعد التفجير أنها ستترك لبنان نحو بلد آمن، وكتب: "كم أحبك يا سوريا وكم أحبك شهدائك أكثر مني فأنت أمّ مهما قسوتِ علينا فحضنك لن يعوضه حضن".



ويمكن تلمس الانحدار الأخلاقي في الأغنية نفسها، في اللقطات حيث امتزج المغنون مع مشهد الانفجار، فيما تصبح الأضرار الجسدية من جروح وندوب وآلام، مجرد رتوش تضاف إلى المشهد القائم على فكرة لعب دور الضحية. ويعني ذلك أن المطلوب من الرأي العام هو إبراز تعاطفه مع الضحية التي تسقط في لحظة سقوطها، من دون تبعات أخرى، وهو ما تجلى بالإصرار في مواقع التواصل الاجتماعي وإعلام محور الممانعة عموماً بعد التفجير، على تقديم الضحايا على أنهم شهداء انتقلوا إلى حياة أفضل وأكثر عدلاً. بكل ما يحمله هذا الطرح السام من تسويف وتأجيل وتمييع للمأساة الإنسانية التي حصلت وتتحمل مسؤوليتها الطبقة السياسية الفاسدة في البلاد، ومن بينها الأطراف المحسوبون على محور الممانعة.

ويجب القول هنا أن قضية استثمار الدمار من أجل الفن أثارت كثيراً من النقاشات الأخلاقية في سوريا خلال العقد الماضي، حيث قدم فنانو النظام السوري العديد من الأعمال التي صورت بين الأنقاض لنقل بروباغندا النظام وسرديته عن الحرب في البلاد. ويتم تغليف ذلك بمقاربات عجيبة، منها على سبيل المثال تشبيه هذا النمط من الاستثمار الفني بسينما الواقعية الإيطالية الجديدة، وهي تيار سينمائي ظهر في إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية.

ولا يمكن الرد على هذه المقاربات سوى بالضحك والاستهزاء وحتى الاحتقار، لأن الواقعية الإيطالية الجديدة اعتمدت على تصوير بؤس الطبقات الفقيرة في المجتمع والاقتراب من روح السينما الوثائقية بالتصوير الخارجي والاستفادة من ممثلين أقل شهرة لتعزيز هذه الروح البسيطة التي تستمد إلهامها من شعور نبيل بالانتماء للطبقة المسحوقة في المجتمع بفعل الفقر والحرب، وتصوير التفاصيل الصغيرة اليومية لا أكثر، بعكس ما قامت به الدراما والسينما السورية من استغلال لآلام الآخرين لتقديم قصص الصمود والانتصار، بدلاً من محاولة توثيق الحقيقة فنياً.

وتكررت المقاربة نفسها في مسلسلات مثل "روزنا" للمخرج عارف الطويل العام 2018 الذي صور في أنقاض حلب الشرقية، وفيلم "نجمة الصبح" للمخرج جود سعيد العام 2018 في أنقاض مدينة دونا، أو فيلم "مطر حمص" للمخرج نفسه العام 2016 في مدينة حمص القديمة، وغيرها. كما أن صحيفة "الأيام" الموالية للنظام، كتبت في نيسان/أبريل 2018 مقالاً بعنوان "دوما لوكيشن" دعت فيه إلى تحويل المدن السورية المدمرة إلى مسرح حي في الهواء الطلق وإلى استوديوهات تروي قصة الحرب في سوريا، من وجهة النظر الرسمية، لأنها رخيصة ولا تكلف ملايين الليرات مثل الاستوديوهات.

ولا يمكن إخراج يزن أنزور من هذه المقاربة التي ينقلها اليوم إلى بيروت، خصوصاً انها تمثل نموذجاً لكيفية تعاطي الفن الأسدي مع ما يجري، ليس فقط في سوريا بل في محيطها أيضاً. مع الإشارة إلى أن "أنزور الصغير" يتحدث باستمرار في لقاءاته الإعلامية التي لا تنتهي، عن "الثقافة السينمائية" التي جعلته يعتمد نفس المقاربة في فيلمه القصير "جوري" العام 2019، الذي تم تصويره في أنقاض مدينة داريا، ويحكي قصة "فتاة صغيرة تبقى وحيدة في مدينة حاصرها الإرهابيون، وقاموا بمذابح جماعية لأهلها، لتكون هي الناجية الوحيدة"، حسب وصفه.

ويجب القول هنا، أن يزن أنزور يحظى بدعم مستمر من قبل مؤسسات النظام السوري، وتقديمه على أنه "فنان شاب يعمل على صناعة سينما مستقلة"، مع حصوله على جوائز وتكريمات من قبل "المؤسسة العامة للسينما"، عطفاً على ما يقدمه من محتوى في أفلامه يخدم بروباغندا النظام، ويساهم في تلميع صورته. فيما يتم تعميم مفاهيم مشوهة عن "ما يجب أن يكون عليه الفن"، عبر نموذج يزن ومن خلفه والده، وتحقير أي طروحات ثانية، مع العمل على بث هذه الرؤية إلى الأجيال الأصغر سناً في البلاد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها