الإثنين 2021/04/19

آخر تحديث: 13:58 (بيروت)

سنة على إسقاط خطة لازارد: السياسيون والمصرفيون وشغل العصابات

الإثنين 2021/04/19
سنة على إسقاط خطة لازارد: السياسيون والمصرفيون وشغل العصابات
كتلة الخسائر الموجودة في مصرف لبنان صارت أكبر من الاستيعاب (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

سنة بالضبط مرّت على صدور أوّل "مسودّة معدّة للنقاش" لخطة الإصلاح المالي، أي خطّة الحكومة الشهيرة التي لم تسلك طريقها للتنفيذ، بعد أن تكتّل في وجهها جيش اللوبي المصرفي الشهير، المنتشر بين أروقة المجلس النيابي ووسائل الإعلام ومؤسسات الإدارة العامّة، والذي تدور في فلكه أيضاً جميع السياسات النقديّة التي انتهجها مصرف لبنان خلال الفترة الماضية.

عنوان الهجوم على الخطّة كان تشاؤم مقارباتها، من ناحية طريقة قياس الخسائر وتقديرها، إلى حد تسويق وصف "الخطة التفليسيّة" للإشارة للخطة. فيما تم الاستعانة بخطاب شعبوي ماكر يحذّر من تبعات تعويم سعر الصرف تدريجيّاً، والمس بأموال المودعين الكبار، من خلال تحويل نسبة من هذه الودائع إلى حصص في المصارف، حتّى أن بعض السياسيين كنائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي بلغ حد إتهام شركة لازارد –التي قامت بإعداد الخطة- بالتواطؤ المشبوه على المصلحة الوطنيّة وسلامة القطاع المصرفي.

بعد سنة من صياغة أولى المسودات، بات بالإمكان العودة إليها لمقارنة مخططات ومقاربات لازارد والأرقام التي استهدفت تحقيقها، بوضعنا المأساوي الراهن وما جرى في البلاد بعد إسقاط الخطة. وبات بالإمكان الاعتماد على هذه المقارنات للوصول إلى إجابة على الأسئلة التالية: هل كانت الخطة وأهدافها فعلاً تفليسيّة مقارنةً بما وصلنا إليه اليوم؟ وما هو الثمن الذي دفعناه خلال هذه السنة جرّاء إسقاط الخطّة والسير نحو المجهول؟ وهل أثبتت التطورات التي حصلت منذ سنة حتّى الآن صحّة الفرضيات التي قامت عليها خطة لازارد.

مسلمات لازارد الثلاث
يوم باشرت لازارد العمل مع استشاريي الحكومة ووزارة الماليّة على الخطة، بنت كل مقارباتها على ثلاث مسلمّات، اكتسبتها عبر سنوات طويلة من العمل مع الدول المتعثّرة التي تحتاج مساعدة صندوق النقد الدولي والجهات الخارجيّة الداعمة الأخرى:

أولاً: من المستحيل أن تتمكّن دولة تعاني من انهيار بهذا الحجم من التعافي من دون برنامج مع صندوق النقد. علماً أن أهميّة هذا البرنامج لا تنبع من الحاجة لأموال قرض الصندوق فقط، بل في كونها "شهادة حسن سلوك" تمكّن لبنان من التفاوض مع دائنين آخرين، ومن التفاوض مع دائنيه الحاليين لإعادة هيكلة الديون.

ثانياً: من المستحيل أن يتمكّن لبنان من التفاهم مع الصندوق، أو مع أي جهة دائنة أخرى من دون سلة شاملة من الإصلاحات في القطاع المالي، التي تبدأ من الاعتراف بخسائر النظام المالي بشكل صريح وواضح، بالإضافة إلى التدقيق الشامل بميزانيات المصرف المركزي، وصولاً إلى التفاوض لإعادة هيكلة جميع الديون السياديّة والاقتصاص من قيمتها.

ثالثاً: لم يعد من الممكن استخدام الأموال العامة لإنقاذ الأنظمة المصرفيّة المتعثّرة وإطفاء خسائرها. وهذه مسألة أصبحت من المسلمات في عالم المال على المستوى العالمي. وبالتالي، فمعالجة فجوات القطاع المالي ينبغي أن تبدأ من شطب الرساميل المصرفيّة نفسها، والاستعاضة عنها بعمليات اكتتاب من أموال كبار المودعين.

مثّلت هذه المسلمات الثلاث الشرارات الأولى التي أججت غضب اللوبي المصرفي على الخطة. وهو ما دفع هذا اللوبي للعمل منذ سنة وحتّى الآن للإطاحة بها، بضربات متتالية ومحكمة. فالاعتراف بخسائر القطاع المالي سقط في المجلس النيابي، عبر المقاربات البديلة التي وضعتها لجنة المال والموازنة. والتدقيق في ميزانيات مصرف لبنان تأجّل مراراً وتكراراً بمناورات وألاعيب، تناوب على القيام بها كل من مصرف لبنان ووزارة الماليّة. فيما تعثّرت مفاوضات الدولة مع المصارف لإعادة هيكلة الدين العام بالليرة اللبنانيّة، قبل أن تسقط حكومة دياب ويسقط معها ملف التفاوض على هذه الديون بأسره. وفي كل هذه الأحداث، أصرّت المصارف على مقاربتها المفضلة للتعامل مع ملف الخسائر، والتي تقوم على مبدأ بيع أصول الدولة لسداد هذه الخسائر، رغم مسبق علمها بعدم قدرة الدولة على تسويق هذا الخيار أمام المجتمع الدولي.

أصابت لازارد بمسلماتها
بعد سنة من تثبيت هذه المسلمات في الخطة، بإمكان المصارف أن تختال بإسقاط الخطة التي هددت مصير رساميل أصحابها. لكنّ من الأكيد أن كل ما جرى من أحداث خلال هذه السنة أثبت صوابيّة مسلمات لازارد. كما تبيّن أن إسقاط الخطة، ورفض السير بهذه المسلمّات، حمّل البلاد كلفة باهظة ومؤلمة.

خلال هذه السنة، طارت المفاوضات مع صندوق النقد، وتحديداً بعد أن انقلب المجلس النيابي على مقاربات الحكومة في تحديد الخسائر بشكل واضح في الخطة، وبعد أن تبنّت لجنة تقصّي الحقائق التي انبثقت عن لجنة المال والموازنة مقاربات جمعية المصارف ومصرف لبنان، التي تناقض بديهيات علوم المال والمحاسبة. وخلال هذه السنة أيضاً، أحجم حملة سندات اليوروبوند الأجانب عن اتخاذ أي خطوة لإطلاق عمليّة التفاوض على آجال وقيمة هذه السندات، خصوصاً بعد أن تبيّن لهم أن الدولة اللبنانيّة لا تملك أي مقاربات ذات مصداقيّة للتعامل مع ملف الخسائر.

في المقلب الآخر، لم يعد التدقيق والتمحيص في أرقام مصرف لبنان مجرّد ترف يطلبه بعض الفرقاء على المستوى المحلي. تحوّل التدقيق الجنائي إلى شرط أساسي وضعه الاتحاد الأوروبي قبل الموافقة على أي مسار إنقاذي للأزمة اللبنانيّة، فيما أصرّ كل من صندوق النقد الدولي والمبادرة الفرنسيّة على مبدأ "التدقيق الشامل" في مصرف لبنان، بمعزل عن شكل أو عنوان هذا التدقيق. وعندما حاولت جمعيّة المصارف إرسال وفدها للخارج للترويج لخطتها البديلة، اصطدمت برفض صارم في جميع العواصم المعنيّة بالملف اللبناني لحلولها، التي تقوم على خصخصة أصول الدولة لمعالجة خسائر القطاع المالي. وهكذا تحوّل تعثّر التدقيق الجنائي، وتعليق ملف التعامل مع الخسائر، إلى مأزق يفرمل علاقة لبنان مع جميع الأطراف الخارجيّة التي ينتظر دعمها.

باختصار، أكدت الأحداث التي جرت منذ كتابة الخطة، صحة هذه المسلمات الثلاث. وتبيّن أن أي معالجة لا تقوم على هذه المسلمات لن تستطيع انتشال البلاد من أزمتها. أما محاولة مصرف لبنان طرح مسار إعادة الرسملة كطريق بديل للتعامل مع الخسائر ومعالجتها، فانتهت إلى فشل ذريع على جميع الصعد. إذ لم تنجح المصارف في إعادة تعويم سيولتها كما تأمّل المصرف المركزي، ولم ينجح المصرف في تسويق هذا المسار كحل محتمل أمام الرأي العام أو المجتمع الدولي.

بالأرقام: أين كنا وأين صرنا
لم تكن الخطة، بتصوراتها ومقارباتها، تفليسيّة إذاً، بل كانت أفضل الممكن في ذلك الوقت من ناحيتي عدالة توزيع الخسائر وتحقيق شروط المساعدات الخارجيّة. وبعد سنة من إسقاط الخطة، صار بإمكاننا أن نقارن بالأرقام وضعنا الحالي، بالوضع الذي استهدفت الخطة الوصول إليه في ذلك الوقت.

في أولى نسخ الخطة التي جرى نشرها منذ سنة، توقعت لازارد أن يصل انكماش الناتج المحلي إلى مستويات تتراوح بين 9% و14% في ختام سنة 2020، على افتراض أن الحكومة ستشرع بنتفيذ خطة شاملة للمعالجة الماليّة بعد شهر أيار من ذلك العام. علماً أن الخطة افترضت أيضاً تحقيق انكماش إضافي بنسبة 7% سنة 2021. بغياب الخطة، وبعد سير البلاد من دون أي معالجة فعليّة للأزمة، وصل الانكماش الاقتصادي فعليّاً في نهاية سنة 2020 إلى مستويات تجاوزت 25% وفقاً لتقدير صندوق النقد الدولي، فيما يتوقّع البنك الدولي أن يصل معدّل الانكماش سنة 2021 إلى حدود 9.5%.

في نيسان من العام الماضي، عند صدور الخطة، قدرت لازارد أن تصل معدلات التضخّم في ختام السنة إلى نحو 25%، نتيجة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانيّة، علماً أن الخطة افترضت هنا أن المصرف المركزي سيشرع في تطبيق إجراءات للتعامل مع ظاهرة تعدد أسعار الصرف ابتداءً من النصف الثاني من عام 2020. لكن مع غياب هذه الإجراءات، انفلشت معدلات التضخّم لتتجاوز في نهاية السنة مستوى 84.9% وفقاً لأرقام الإدارة المركزيّة للإحصاء. مع العلم أن جميع التقديرات تذهب إلى توقّع ارتفاع قياسي في هذه المعدلات خلال المرحلة المقبلة، وخصوصاً بعد رفع الدعم عن المحروقات.

منذ سنة، قدرت لازارد حجم الفجوة الموجودة في ميزانيات مصرف لبنان بنحو 42.8 مليار دولار. وهي فجوة تمثّل خسائر المصرف نتيجة الهندسات الماليّة والتدخّل لتثبيت سعر الصرف. اليوم، يصعب تحديد حجم هذه الفجوة، نظراً لغياب المعلومات الدقيقة المتعلقة بهذه الفجوة. لكن آخر ميزانيات مصرف لبنان تظهر أن بند الموجودات الأخرى الذي يستعمله المصرف لإخفاء خسائره تجاوزت قيمته مستوى 48.5 مليار دولار، فبات هذا البند يمثّل وحده نحو ثلث ميزانية مصرف لبنان. علماً أن ثلثي موجودات المصرف المركزي، أو ما يقارب 103.4 مليار دولار، تمثّل ديون أعطاها المصرف للدولة أو القطاع المصرفي المحلي، أو خسائر مخفيّة تحت بند الموجودات الأخرى، وهي كلها موجودات غير قابلة للتحصيل أو التسييل خلال الفترة المقبلة. وبذلك، يمكن القول أن كتلة الخسائر الموجودة في مصرف لبنان صارت أكبر من الاستيعاب كما كان الحال منذ سنة.

ثمن الوقت الضائع
كل ما جرى منذ عام وحتّى اليوم، من ارتفاع في معدلات التضخم وتدهور إضافي في سعر الصرف، وتعاظم للخسائر المتراكمة في مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، ليس سوى ثمن الوقت الضائع، أو بالأحرى ثمن الهروب من المعالجات المطلوبة. منذ سنة، وحسب أولى نسخ الخطة، كان يفترض أن تسير الدولة في خطّة تدريجيّة لتعويم سعر الصرف، ليصل إلى حدود 2,607 ليرة مقابل الدولار بحلول سنة 2021، و2,979 بحلول سنة 2024. لكن مع تأخر تنفيذ الخطة، استمر التدهور في سعر صرف السوق السوداء، وهو ما أدى لتعديل أرقامها مراراً لتتماشى مع أسعار الصرف الجديدة. واليوم، بات سعر الصرف الفعلي في السوق السوداء يتجاوز 12,400 ليرة مقابل الدولار، وصارت العودة لأرقام النسخة الأولى من الخطة ضرب من الخيال.

أهم ما في الموضوع، هو أن هذه التضحيات لا ندفعها اليوم في سبيل الخروج من الأزمة، بل في سبيل الهروب من المعالجات المطلوبة للخروج منها. في خطة لازارد، كان يفترض أن يضحي أقل من 1% من المودعين، أي أصحاب الودائع الكبيرة، بجزء من ودائعهم التي ستتحول إلى أسهم في المصارف، على أن يتمكنوا من تسييل هذه الأسهم بعد معالجة ملف الخسائر على المدى الطويل. اليوم، لم يعد بإمكان أي مودع أن يتصوّر حلاً قريباً لأزمة الأموال العالقة في النظام المصرفي، بعد أن تعاظم حجم الخسائر خلال الأشهر الماضية، وخصوصاً بعد أن جرى تهريب ما يمكن تهريبه من السيولة المتبقية في النظام المصرفي. ببساطة، لم تكن الإطاحة بخطة لازارد دفاعاً عن المودعين ومصالحهم، بل دفاعاً عن رساميل أصحاب المصارف الذي هالهم أن تطرح الخطة شطب رساميلهم لمعالجة الخسائر، واستبدال حصصهم في المصارف بأسهم ينالها كبار المودعين تعويضاً عن أموالهم العالقة.

في خلاصة الأمر، ما دفعنا ثمنه طوال عام كامل كان حماية المصارف وأصحابها فقط.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها