الخميس 2021/03/04

آخر تحديث: 12:23 (بيروت)

"صالة أورفانيللي".. بيع إنسان في المزاد العلني

الخميس 2021/03/04
"صالة أورفانيللي".. بيع إنسان في المزاد العلني
أشرف العشماوي
increase حجم الخط decrease
ماذا إذا فرغ المزاد من دقاته الثلاث الشهيرة، وبدلًا من بيع التحف المعروضة، بِيعَ الإنسان؟! سؤال محوري تنطلق منه، وتدور حوله، رواية أشرف العشماوي الجديدة "صالة أورفانيللي" (الدار المصرية اللبنانية، 2021)، وهي التاسعة في مسيرة القاضي المصري المتحوّل إلى الأدب، بعد سلسلة أعمال صوحبت عادة بإخباريات قوائم الأكثر مبيعًا، والترشح للجوائز المحلية والعربية، وتعدد الطبعات، وإثارة الجدل الاجتماعي والسياسي والديني، منها: "بيت القبطية"، "المرشد"، "تويا"، "البارمان"، "كلاب الراعي"، "سيدة الزمالك"، وغيرها.

في السياق ذاته، مضت "صالة أورفانيللي" على درب رفيقاتها في تفجير الصخب، فالرواية وفق الناشر، صدرت في ثلاث طبعات متتالية خلال أيام وجيزة، كما أنها تعرضت للتزوير لتباع في طبعات شعبية على أرصفة الشوارع من دون حقوق ملكية بمعرفة قراصنة الكتب. وبغض النظر عن هذه الأمور الترويجية والدعائية، وإلى أي مدى تنتسب إلى الحقيقة والدقة أو إلى التخييل والمبالغة، فإن ما تحمله الرواية ذاتها من قضايا التسويق والتسليع والتسعير والاستهلاك والقيمة والأصالة والزيف يستحق المناقشة بجدية وعمق، خصوصًا أنها قضايا ملتبسة، متعددة الأوجه، ذات أبعاد فلسفية وفكرية وإبداعية وجمالية واقتصادية في الوقت نفسه.

يُحتسب لروايات البيست سيلرز، في عمومها، بلورة مفاهيم المناخ الطبيعي لإنتاج الأدب، بصورة واقعية على الأرض، بمعنى أن نشر الروايات من جانب المؤلفين وأصحاب الدور الخاصة صار صناعة مكتملة بذاتها، تهدف إلى تحقيق النجاح الفني والمادي معًا، وتفادي الخسارة من كل جانب. وقد تمكنت روايات كثيرة حديثة على مدار السنوات الماضية بالفعل من حصد مكاسب رقمية ضخمة أنعشت حركة نشر الكتب، إلى جانب امتلاك نسبة مقبولة من هذه الروايات درجات متفاوتة في التفوق الفني والجمالي، ما مكّنها من فتح السرد المعاصر على خلطات شهية وأساليب مغايرة شيقة، واقترن ذلك كله بأمر آخر إيجابي، هو توسعة حيّز القراءة واجتذاب فئات متنوعة من الجمهور، خصوصًا من الشباب والناشئة.

وعلى اختلاف هذه الروايات في عوالمها وأطروحاتها وبيئاتها وإحالاتها الترميزية والإسقاطية، وعلى تعدد أنساقها وتياراتها وأبنيتها وأساليبها، فإن هناك خيوطًا واضحة مشتركة تجمع بينها تحت مظلة واحدة، بعيدًا عن المعيار التقييمي من الوجهة النقدية المجرّدة، الذي يبقى في النهاية هو ميزان الفصل بين "القطعة الثمينة والقطعة الفالصو"، وفق تعبير رواية العشماوي الأخيرة، التي تنناول أحداثها صالة مزادات تاريخية شهيرة في قلب القاهرة.

من هذه السمات المشتركة، الاعتناء البالغ بالقصة بطابعها الحكائي المتسلسل المحبوك، حتى مع اللجوء إلى تقنية كسر الزمن، وإكساب الأحداث الاعتيادية والغرائبية تشويقًا وإثارة وغموضًا، بإبراز وجهات نظر مختلفة للشخصيات والاهتمام بتعدد الرواة، وشحن المشاهد والمواقف المتناقضة بطقوس بوليسية وأجواء اللهاث والمطاردات، وإن لم تقع جرائم بالمعنى الكلاسيكي لأدبيات الجريمة، ومزج الوقائع المألوفة والخرافات والأساطير والأحلام، واستخدام لغة بسيطة قريبة، في السرد والحوار، ذات عبارات قصيرة، مكثفة، والتنقل السريع من لقطة إلى أخرى دون استكمالها، مع العودة إليها لاحقًا، كما يفعل السينمائيون، وغير ذلك من ملامح وأبجديات.

أما أكثر الأمور المشتركة شيوعًا، فهو ذلك الالتفاف المركزي حول قماشة عامة أو ثيمة جوهرية في العمل ككل، بحيث يمكن اتخاذها معادلًا رمزيًّا وفلسفيًّا لما هو أبعد من المحكيّات المباشرة القريبة، ومنها صالة القمار على سبيل المثال في رواية "شلة ليبون" (2020) للكاتب هشام الخشن، تلك الصالة المحمّلة بالدلالات، والتي لخّصت سلوكيات البشر وانحرافاتهم وصراعاتهم الضارية على امتداد حياتهم النزقة في صيغة مجموعة مقامرات ومنافسات شرسة حول مائدة الأوراق واللعب والمكر والدهاء، وهكذا.

وفق هذه الآليات كلها، السائدة في روايات الأكثر مبيعًا، يأتي رهان العمل التشويقي المثير "صالة أورفانيللي" لأشرف العشماوي منعقدًا على فكرة "المزاد"، ذلك الذي ليس للتحف والأنتيكات والقطع التاريخية والأثرية فقط، وإنما هو لتقييم كل شيء، وعرضه للبيع والاقتناء، بمقابل مادي. وهنا يصير البشر أنفسهم بضائع للاتجار، ويكون منهم الأصيل والنفيس والنادر، ومنهم المقلّد والزائف والرخيص، ومنهم كذلك من يرفض التسليع ويقاومه بكل ما أوتي من قوة وشرف، ولو اضطر في سبيل ذلك إلى بذل روحه ثمنًا لتحرره من اقتصاديات النخاسة وسلوكيات القوادة.

وهناك رهان آخر تخوضه رواية العشماوي، التي تتجاوز أربعمئة صفحة، يتعلق أيضًا بمعايير القيمة التي تنتظم الرواية تحت مظلتها، هذا الرهان هو موقع الرواية نفسها في مزاد الأعمال الأدبية التنافسية، على اعتبار أن الرواية الرائجة صناعة في الأساس، وسلعة جمالية موجهة إلى سوق واسعة وقوى شرائية، ليس من السهل إرضاؤها بدون لوازم المتعة والإدهاش والاشتغال الفني القائم على وعي وموهبة وخبرة.

تقدم "صالة أورفانيللي" نفسها بقوة كعمل روائي متماسك يتعاطى بنضج مع تحولات المجتمع المصري وتقلباته منذ الثلث الأول من القرن الماضي حتى السبعينات، من خلال تكنيك "الثابت المكاني" و"المتغير الزماني والبشري". وَتُجسّد هذا الثابت صالة مزاد في قلب القاهرة أسسها موظفان في أرشيف وزارة التجارة في الثلاثينات بعد ممارستهما عدة وقائع ناجحة في النصب والاحتيال على المواطنين وأصحاب المعارض وهواة جمع المقتنيات، هما اليهودي أورفانيللي (اسمه يحيل إلى أسطورة طائر أكله الذئب) والمسلم منصور التركي (الشرس الذي يعاني عقدة الأم اللعوب)، اللذان جمعتهما الصداقة منذ صغرهما حيث التقيا في المدرسة، وصار يكمّل كل منهما الآخر دائمًا، إلا أن القوة والقيادة والسطوة دائمًا لمنصور، ذلك الذي يكاد "يخلو من المشاعر"، وهذا التفاوت بينهما لم يمنع شراكتهما في تأسيس الصالة، التي باتت سريعًا أكبر صالة مزادات في مصر، يرتادها الأعيان والوجهاء من المصريين والأجانب، ويهتم بها الملك فاروق نفسه، وحاشيته، والأسرة الملكية، ومن بعدهم ضباط ثورة يوليو، والطامعون الجدد.

عبر ثلاثة رواة للأحداث، هم "اليهودي" و"التركي" و"أورفانيللي منصور" (ابن اليهودي الذي تسمّى باسْمَي أبيه وشريكه معًا)، تستعرض الرواية المتغيرات الزمنية والتحوّلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية فوق أرضية صالة المزاد الثابتة كوطن مصغّر، منذ عهد الملكية والاحتلال البريطاني، مرورًا بالحرب العالمية الثانية وإعلان دولة إسرائيل وثورة يوليو 1952، وصولًا إلى هزيمة يونيو 1967، وبدايات عصر السادات والتحوّل إلى الانفتاح.

عبر مجموعة محدودة من الشخصيات، تتكون من رواة الأحداث ونسائهم، والعاملين في صالة المزاد، وفي الصالات المنافسة، ورموز السلطة والجاه مثل الملك فاروق، والملكة فريدة، وحاشية الملك، ومعاونيه، وممثلي السلطة الجديدة ما بعد ثورة يوليو مثل الضابط أحمد العيسوي، ترسم الرواية بانوراما واسعة لكل أشكال الفساد واللصوصية والدونية التي مرت بمصر الملكية والجمهورية على السواء، وكأن شيئًا لم يتغير سوى رفع صورة الملك فاروق من صالة المزاد، ووضع صورة محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة، ثم رفعها بدورها ووضع صورة جمال عبد الناصر، أما محتوى الصالة ذاتها فلا يخلو من قطع مزوّرة مغشوشة، وشياطين يمارسون سائر ألوان الخديعة والخيانة والانتقام وتدبير المكائد والتقرب إلى السلطة بأحطّ السبل.

لم تفقد الرواية بوصلتها رغم امتداد صفحاتها وتعدد تفاصيل حكاياتها الصغيرة، التي يرويها كل فرد من وجهة نظره، وتشكل في مجموعها جدارية كبرى للضياع الإنساني الناجم عن الإحساس بأن كل شيء يُباع ويُمتلك، فالتحف يجري تزويرها وتلفيق تاريخ زائف لها ليصير لها ثمن، والبشر يبيعون ضمائرهم وأسرار عملهم للمنافسين بمقابل مادي، وحاشية الملك يراودون "ليلى" زوجة اليهودي عن نفسها ويزيّنون حضورها للقاء الملك في جناحه الخاص، ويهددون شريكه منصور فيقبل التغاضي عن الجريمة، فيما يرفض زوجها أورفانيللي وتقاوم هي، فيدفعان حياتهما ثمنًا لذلك، حيث يموت اليهودي كمدًا، ويقتل منصور "ليلى" كي لا تتحدث عن المؤامرة فيتعرض لغضب ملكي، ويُفني أورفانيللي الابن حياته من أجل الانتقام من منصور وقتله واستعادة حصته في صالة المزاد التي نهبها التركي والشركاء الجدد وأخفوا ما فيها من قطع ملكية نفيسة تعود إلى أسرة محمد علي، بعيدًا عن أعين محاكم ثورة يوليو وأطماع ضبّاطها ولجانها من الفاسدين والمرتشين.

تسجّل الرواية كذلك الأحداث الكبرى الدائرة في مصر وخارجها، بالتزامن مع ما يجري في الصالة، مثل مذابح اليهود في مصر والتفجيرات التي أجريت ضدهم في أعقاب إعلان دولة إسرائيل، واتهم فيها الإخوان المسلمون آنذاك، وكيف تغيرت أوضاعهم في البلاد واضطروا إلى الهجرة تباعًا حتى كادوا يندثرون، وحلول وباء الكوليرا وتأثيره الفادح خصوصًا على الفقراء وغير المتعلمين، واندلاع الحرب العالمية الثانية والأزمات الاقتصادية المتعلقة بها، واستفحال الفساد الملكي الذي كان أحد أسباب ثورة يوليو، واستمرار الأوضاع السيئة بعد الثورة بسبب المنحرفين الجدد والاستعانة بأهل الثقة والنفاق لا أصحاب الكفاءة والنزاهة.

ومن خلال هذه الأوضاع العامة كلها، يتجلى لماذا بات البشر مستعدين لبيع ضمائرهم، وتطوير مستوى جرائمهم، بداية من الغش والتدليس والنصب "إحنا بنكسب من تغفيل الناس وحبهم للاقتناء والتغيير، ولو جاملت أو قلت الحقيقة كاملة حتتخسر وماحدش حيصدقك"، مرورًا بتلفيق التهم بمعاونة أهل النفوذ، وبيع الذات والقوادة، وصولًا إلى قتل بعضهم البعض بدم بارد، ما يعني الموت الفيزيائي للبشر بعد الموت المعنوي لإنسانيتهم.

وبالرغم من غوص الرواية التاريخي الدقيق للتعبير عن الخريطة المجتمعية في مرحلة ما قبل ثورة يوليو، خصوصًا حياة الطبقة الأرستقراطية، فإن الرواية بدت أحيانًا غير ملتزمة بلغة عصرها، في الحوار الدائر على ألسنة شخصياتها، حيث نطقوا بمفردات واصطلاحات وتركيبات دارجة في يومنا هذا، ولم تكن مستخدمة في زمن الرواية، من قبيل: "يقطره" (أي: يمشي وراءه)، "بتدّي حقن" (أي: تشحنه ضد أمر ما)، "الوساخة في السوق"، "ده شغل بوتيكات حقيرة"، وغيرها من تعبيرات، لم يكن ملائمًا اللجوء إليها في ذلك العهد، وهي هفوات إجرائية تناثرت على امتداد النص.

أمر آخر إجرائي يتنافى مع المنطقية، هو أن الكثير من العبارات الفلسفية حول لاجدوى الحياة المتهالكة وإن كانت وسط مجوهرات وقطع أصلية باقية، ومونولوجات الإقرار بالذنب وتطهير الذات والإحساس بالعبثية والاقتراب من الموت وضياع الثروة والحلم، وما إلى ذلك، كانت تأتي على ألسنة الشخصيات التي تمثل الأطماع والمادية المفرطة في بعض لحظات الضعف والرغبة في العودة إلى الصواب، فيما أن الأقرب إلى التصديق أنها لم تكن لترقى إلى هذه التصورات والمفاهيم أصلًا، في ظل انغماسها الكامل في لغة الأرقام والحسابات والأعمال المشبوهة والصفقات القذرة.

وفي المحصلة، تبقى "صالة أورفانيللي" لأشرف العشماوي اجتهادًا حقيقيًّا لإضافة قطعة فنية غير مغشوشة في صالة عرض روايات الأكثر مبيعًا الأنيقة، وإن كانت تحكي عن شخصيات بغيضة أوصلها الانتفاخ بالتزييف إلى نهايات سوداء تستحقها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها