السبت 2020/08/15

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

إلى ألكسندرا نجّار: لك وحدك احمرار الشفق...

السبت 2020/08/15
إلى ألكسندرا نجّار: لك وحدك احمرار الشفق...
ألكسندرا نجار
increase حجم الخط decrease
هذه ليست مرثاةً يا صغيرتي، لا لأنّك لا تستحقّين الرثاء، بل لأنّي لا أتقن الرثاء. وحين أحاول أن أقنع الكلمات بأن تكتب ذاتها في نصّ رثائيّ، أقع في أحبولة اللغة التي هي أقوى من كلّ الأحابيل، وأرى الكلمات تتمرّد على معانيها.

تتمرّد الكلمات يا ألكسندرا لأنّ الرثاء تحايل على الموت. والموت الذي متّه أنت على مرأىً من بحر بيروت أقوى من التحايل، وأقوى من الكلمات مجتمعة. لم تكبري يا صغيرتي بما فيه الكفاية لتدركي كيف نصير نحن الكبار أسرى اللغة، وكيف نصير أسرى غياب اللغة، وغياب المعنى، حين يموت الصغار الذين مثلك ويتركون لنا حرقة الأسئلة التي تتداخل وتنصهر في سؤال واحد، سؤال عن معنى الموت في وطن يستبيحه اللصوص وينهبه قطّاع الطرق.

لقد تكسّرت اللغة أمام بحر بيروت، يا ألكسندرا، حين تفجّر البحر وتفجّر المرفأ وتفجّر الغمام، وحين انكسر جسمك، الذي كانت تزغرد فيه الطفولة، كما تنكسر وريقات الشجر. وها أنا الذي لا يعرف من حكاية حياتك القصيرة سوى الخاتمة الممزوجة بالموت والبيرق المزدان بالأرزة حين كان يتطاير بين أصابعك، أحسّ وكأنّي أعرفك منذ آلاف السنين. فأنت تختصرين في عينيك الملتمعتين بالثورة، وجسمك المكسور بالموت الذي يشبه البحر، حكاية هذا الوطن الذي يولد من جديد، ويدفع دم أطفاله ثمناً لهذه الولادة. كيف صدّقنا يوم انطلقت ثورة السابع عشر من تشرين أنّ الولادة ستكون هيّنة؟ غنّينا ورقصنا وسهونا عن الموت المتربّص بنا، وصدّقنا أنّ الفرح المنبثق من عيون الثوّار يستطيع أن يبتلع كلّ شيء، وأن يجدّد كلّ شيء. نسينا أنّ الولادات الجديدة غالية كالقمر الذي انتظرته فيروز عشر ليال على السطح، وأنّ ثمنها هو دم أطفالنا المكتوب بالدم وماء عيونهم الذي يحوّله ماء البحر إلى موت.

سنكمل الثورة يا ألكسندرا لئلاّ يشمت بنا خيالك المضرّج بالرحيل، وأخيلة الذين «ضحّوا وراحوا» يوم تفجّرت بيروت وتفجّر ميناؤها وتفجّر البحر. سنكمل الثورة يا ألكسندرا لا لشيء إلاّ لكي نستحقّ موتك، ونستحقّ كلّ البيارق التي رفعها الأطفال كي يصنعوا لنا وطناً من شمس وغمام، وطناً يشبه الفرح في ألعابهم والحكايات السعيدة في حكاياتهم. سنكمل الثورة يا صغيرتي كي نقتلع الذين قتلوك عن عروشهم قبل ارتحال الغمام واحمرار الشفق فوق بحر بيروت. فلك وحدك البحر يا ألكسندرا، ولك وحدك الغمام المرتحل في غمامه، ولك وحدك احمرار الشفق...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها