السياسة المخيفة بما تكشف وتحجب

رشا الأطرش
الخميس   2024/09/26
في طريق النزوح من الجنوب إلى بيروت (علي علوش)
لماذا كل هذا التداول، عن حُسن نيّة أو من دونها، بتقزيم السياسة، وأحياناً أبلستها، إذا ما دارت حول الحرب الطاحنة التي ابتُلي بها اللبنانيون؟ واحدة من أشرس الحروب الإسرائيلية على لبنان. بل لعل عَيشها على خلفية انهيار تام لمؤسسات الدولة وبُنى الاقتصاد الإفلاسي، يجعلها الأشرس بالمُطلق، على المُستهدفين بها مباشرة، وغير المستهدفين.

لماذا نسمع، من ناشطين وكتّاب وحقوقيين، كل هذا الإنكار والشجب والحماسة ضد السياسة، بل وحتى التفكير السياسي بما يتضمنه من تساؤلات ومواقف، فردية وجماعاتية، إزاء جدوى هذه الحرب ونكباتها المكللة بالغلبة المؤكدة كعِلم الغَيب؟ الحرب التي لم تأتِ كمفاجأة بعد 11 شهراً من لكز الدبّ، ومع ذلك فاجأت الأحزاب والناس والدولة كضيف حضر ولم يحضر واجبه. ولماذا كل هذا الإصرار على إعلاء التضامن باعتباره الفعل السياسي الواحد والوحيد المقبول الآن؟

كأنه الخوف المباغت، تماماً مثل هذه الحرب، من السياسة التي لطالما استهلكها اللبنانيون أكثر من الملح في طعامهم. الخوف مما قد يكشفه تداولها، ومما يحجبه.

فالسياسة ربما ستكشف، على نحو مؤلم ومباشر وعميق، معنى استفراد حزب واحد بطائفة بكاملها، المقتنعين من أفرادها – خريجي مدارس المهدي وكشافته، كما الصاغرين قسراً، المفتقرين إلى خيارات بديلة تؤمّن سبل الحياة والأمان في وطن الطوائف المحدق بناسه. السياسة، على ما يُخشى، ستُعرّي العزلة، مريرةً كاوية، وقد وُضعت في اختبار التكافل العملي، لا سيما في ظل دولة باتت لا تكفي نفسها في أيام "السِّلم" بالحبر والورق والطوابع في دوائرها الرسمية، فكم بالحري في حرب حصدت من مواطنيها، خلال يومها الأول وحده، ثُلث ما حصدته الأيام الـ33 لحرب تموز 2006.

يتكرر على مسامعنا أن هذا ليس الوقت المناسب للكلام في السياسة. وهو ما قد يعني مثلاً أن نركز جهودنا، كلما وقعت حادثة عنف أسريّ، أو جريمة حرمان أمٍّ من أولادها، على مداواة الجراح والاحتواء والحماية الأهلية من المعنِّف، من دون موازاة ذلك برفع الصوت من أجل تعديل قوانين مجحفة أو تفعيل قوانين حامية. صحيح؟.. ليس صحيحاً؟.. يبدو "الوقت المناسب" في حاجة إلى إعادة نظر.   

في كل الأحوال، لم ينتظر الواقع مَن يأذن له بالسياسة. فإلى جانب الصورة الأيقونية لزجاجة مياه يتشاركها العالقون في زحمة المرور على طريق بيروت-الجنوب، والمطابخ الأهلية لإطعام النازحين وتأمين منامتهم وإيوائهم، والاستجابة الشعبية المدهشة لاحتياجات الفارين من الجحيم... برزت حزازات في أكثر من مدينة وبلدة لم تفتح أذرعها على وسعها للنازحين من الجنوب والبقاع والضاحية. بل حدث أن رفض نازحون اللجوء إلى مناطق جارة، يعدّونها "مُعادية"، أو أقل من صديقة في أحسن الأحوال، وهذا بكل تأكيد جَنى أعوام وأعوام من "السياسة" و"السياسة المضادة". ويضطر نازحون، بمساندة قوى الأمر الواقع في حيّ بيروتي، إلى اقتحام مدرسة خاصة لإيواء نازحين. فالسياسة تتمظهر بما في جوفها الأهلي والشعبي، ولو من دون خطاب، ولو من دون قيادة، و"يا مَحلا" الخطاب والقيادة.

والسياسة أيضاً، تحت سماء القصف، تضع تحت عدسة مكبّرة مَشهدُ هيمنة فائض القوة المحلية، على ما تبقى من فُتات الحياة السياسية والدستورية، على المؤسسات والقضاء الذي لم يصل إلى فاعل في عشرات الاغتيالات والتفجيرات والاعتداءات منذ 20 عاماً، ولا حقق العدالة لضحايا انفجار المرفأ والمودعين في المصارف. هيمنة ممتدة إلى الشارع، واختبر وطأة دراجاتها النارية شباب 17 تشرين، وتبدّت في غزوة عين الرمانة، و...و...

السياسة قد تنفخ روحاً جديدة في ماهية هذا كله الآن، والروح ثقيلة متورمة، والنفوس أصلاً يائسة متعبة. ولو كانت هناك سياسة فعلاً، في ما خلا "فضفضة" العاجزين، لربما ظهر نفعها في هذا الملف أو ذاك، بل لربما خيضت الحرب بدعم اللبنانيين جميعاً، أو جُنّبوا جميعاً تجرّع الكأس.

لكن السياسة، والحق يُقال، ليست كلها مرفوضة من مُعلّمي الوطنية لإخوتهم في المجتمع. فالمسموح الحميد يدور حول حث دولة مهترئة ومنهوبة على القيام بواجباتها الدبلوماسية والإغاثية... وهي التي جعلتها قلّة السياسة على هذا النحو. حميد في تحركات سياسيين، دون آخرين، لمحاولة جلب الهدنة أو وقف إطلاق النار ببنود يتقبلها طرفا الصراع... ولا رأي للبنانيين فيها. إذ أن المطلوب من عموم الشعب حصر أفعاله السياسية وعقوله ومشاعره في تضامن غير مشروط. أي، ببساطة، أن يَخرسوا، وبذلك يجتازون امتحان الأخلاق ويكونون مواطنين صالحين في البلاد التي، وبسبب هجران السياسة، باتت على هوى الغرائز والعصبيات و"حروب الوجود" في مواجهة الداخل والخارج. في مثل هذه الأرض نمت الشماتة البغيضة قبل هذه الحرب بكثير، وما زال ينمو التهديد والتخوين.

مع ذلك، دعنا من السياسة، لأنها تبدو هي الخطر الآن. وإذا استسلم اللبنانيون لوسوساتها السياسة وغوايتها مُفسدة الصمود، حُجِب التضامن أو توارى، أو تأخر متلهياً بقشور من نوع: مَن، بَعد إسرائيل، المسؤول عن هذا المشهد القيامي اليوم؟ أي هدف مرجو أو كان مرجواً؟ وهل تُعادل كَفّته كل هذه التضحيات من بيئة المقاومة نفسها وعموم البلد؟ هل من البديهي والعادي أن ينفجرَ المنزل المحاذي لمنازل تضم عائلات وأطفالاً، أو كراج تصليح السيارات الذي يمرّ به السكان كل يوم، بأسلحة مخبّأة؟ لماذا، وبعد عدوان "البايجر" واللاسلكي والاعتراف بالاختراق، يُنظّم اجتماع أمني في مبنى سكني ضمن حي سكني؟ البيئة الحاضنة نفسها تتساءل في الغرف المغلقة. وإن كنا جميعاً نعرف إجرام إسرائيل ووحشيتها ولا مبالاتها بالمدنيين، مثلما نعرف أسماءنا، فلماذا لا يُحمى المدنيون من أهلهم استباقاً، بتجنيبهم هذه الأخطار بدلاً من البكاء فوق أشلائهم؟ لماذا تُحفَر الأنفاق لحماية الصواريخ، ولا تُحفَر ملاجىء للمدنيين الموعودين دوماً بالحروب؟ لماذا لم يُحتسب للحرب بواقعية؟ والأهم: لماذا تُحالفنا كل هذه الانتصارات بلا هوادة؟