الحرب على ضفاف بعلبك

محمد شرف
الخميس   2024/09/26
لوحة بريشة محمد شرف
لم أكن أنام جيّداً في الفترة الأخيرة، حين كانت الظروف تسمّى عادية، وقبل أن تنقلب رأساً على عقب. عوامل كثيرة تداخلت لتجعل من النوم الجيّد، أو المعقول، أمراً أقرب إلى المستحيل. أحلام غريبة تتشابك فصولها بلا منطق أو نظام. هواجس وكوابيس من النوع الخفيف، لحسن الحظ. مخاوف في الحلم تعود إلى أمور ومشكلات منسيّة كان اللاوعي يختزنها، وجدت فرصة سانحة كي تنفلت منه على هواها. هذه الأمور كلّها تعاملت على نوعية النوم وخرّبتها. تبين لي أن العديد من الأصدقاء، ممن مرّت عليهم سنون العمر ذاتها من حيث العدد وتزاحم الحوادث، يعانون مشكلة مماثلة.

كانت قصّة النوم على هذه الحال المتقلقلة حين كان النهار يمرّ من دون أثقال جمّة، إذا ما استثنينا بعض الملل والرتابة، بالرغم من النشاط الدائم، وبعضه بلا طائل، والكثير من القرف الذي تتسبب به معاينة عالم خارجي لا خير فيه. ندرك الآن، بصفة الجمع، إذ لست وحدي في هذه الدوّامة، إن ما كنا فيه وعليه، أبسط وأخف وطأة مما حمله لنا الثلث الأخير من شهر أيلول. 

كان ليل بعلبك في الأيام العادية مغلّفاً بالصمت والخمود، على أقل تعديل. فالنهار يحمل أصوات أناس تخالهم يتقاتلون، وهم في الواقع يتبادلون أحاديث عادية، وصراخ أولاد تفلّتوا من سجون أهاليهم، وأبواق حافلات صادحة، ناهيك بمحركّاتها المزمجرة. إنتظرنا نهايات أيلول كي نتخلّص من حرٍّ سلخ رؤوسنا، ومن شمس كنا نحبها، وما زلنا، لكنها كوت أجسادنا. على أن ليالي أيام الشهر الأخيرة جاءت مختلفة.

في المرة الأولى التي اهتز فيها باب البيت الخشب، بعد منتصف الليل، أعدت السبب إلى هواءٍ اشتد خارجاً وأدّى إلى ارتجاف الباب. هذا ما اعتدت حدوثه شتاءً. قلت في نفسي: لقد جاءت الريح قبل موسمها. اهتز الباب مرّة أخرى، لكنها أقوى من الأولى، ثم مرّة ثالثة أشد من سابقاتها، وتبعها صوت انفجار. أدركت حينها أن بعلبك صارت هدفاً للطائرات اللئيمة والغادرة، شأنها شأن مناطق أخرى. علينا، من الآن صاعداً، أن نعتاد "الغزوات" الليلية، وأن نودّع نوماً لم يكن سابقاً قريباً من الإستقرار، وأن نُقبل على ما لا يشبه النوم في شيء.

كنا نخاف على الجنوب وأهله، وتسحقنا الحسرة والغضب على ما يعانيه أناس وقعوا في أتون الحرب أكثر من سواهم. علينا، الآن، أن نخاف كذلك على أنفسنا، ونشفق على ضعفنا، الذي لا شأن له بمفهوم القوّة والبأس والصمود. هو ردّ فعل طبيعي لدى الجميع، يغذّيه التعلّق بحياة فانية، بالرغم من عثراتها الكثيرة.

فاجأتنا أعداد الشهداء. لم نكن نتصوّر كيف أن مئات قضوا تحت الأنقاض. هو الشعور نفسه الذي كان يراودنا كلّما سمعنا خبراً من غزّة المظلومة. كتبت صديقتنا ميهاد في صفحتها الفيسبوكية، بعد أيام قليلة مضت على الإستهداف الأول، أن نصف بلدة  دورس صار "على الأرض". ظننتها تبالغ، فالمبالغة واردة في إيراد أخبار الحروب، وما تلحقه من خراب ودمار.

لا تبعد دورس عن منزلنا سوى كيلومترين إثنَين تقريباً. مررت فيها منذ أيام، كعادتي، في طريقي إلى "سوق الطرش" الشعبي الذي يُقام مرتين في الأسبوع، وكانت البلدة "فوق الأرض" ولا تلوي على شيء. شاهدت، اليوم، صوراً لدورس بعد قصفها، فلم أتعرّف على الزاوية التي التُقطت منها الصور، علماً أني أعرف كل طرق البلدة وزواريبها. دمار غيّر طبيعة المكان بحيث صار التعرّف على زاوية ما، من خلال صورة محدودة الأفق، مستحيلاً.

كان عليّ، اليوم أيضاً، أن أقصد سوق المدينة، من أجل شراء خبز أسمر، لا أستهلك سواه، من فرنٍ بعينه. كنت مررت قرب الفرن البارحة، ولم أتوقف نظراً لحجم الجمع البشري عند المدخل. أجّلت مهمّتي إلى اليوم. بعد انتظام النيّة ونضوجها، صعدت إلى سطح المنزل المرتفع نسبياً. أردتُ رصد عدد السيارات التي تجتاز الشارع الرئيسي، المسمّى "شارع رأس العين".

كنت، في السابق، ألغي مهمة من هذا النوع، في حال رصد أرتال متتابعة من السيارات، ما يعني أن المرور بالسيارة في سوق المدينة سيكون محبطاً، وسيتتطلّب وقتاً بسبب الزحام والفوضى، وتجاوزات السائقين لكل أعراف السير. ما يحدث الآن هو العكس تماماً. كان الوضع هادئاً، ولا سيارات تجوب الشارع، ما يعني أن الخليقة تشعر بخطر قد يأتي في أي لحظة. لم أرَ حافلات في الشارع. ربما مرّ "توك توك"، أو ما يشبهه، لكني بالرغم من ذلك عزمتُ على مغادرة المنزل.

قصدتُ منطقة رأس العين قبل الذهاب لشراء الخبز. طرق فارغة تقريباً من السيارات التي كانت تجوبها في كل وقت، لا لشيء إلاّ بقصد إضاعة الوقت الذي لا ثمن له. ليتها كانت فارغة على هذا النحو في كل الأيام. إبتسمتُ في سرّي. ما من شك في أن روّاد منطقة المتنزهات، من أصحاب سيارات الدفع الرباعي ذات الزجاج الـ"فوميه"، يشعرون الآن بضيق جارح. لو كان في إمكاني الشماتة منهم علناً، لفعلتُ بلا تردّد.

توجهت إلى الفرن، فوصلتُه خلال دقيقة واحدة. معجزة من معجزات تأثيرات الحرب وأجوائها. المتاجر في وسط المدينة مقفلة في معظمها، ما عدا بعض محلات بيع المواد الغذائية. قلّة من الزبائن في المكان المقصود، وتبيّن لي أن الفرن لم يصنع خبزاً أسمر هذا اليوم.