الخميس 2014/07/31

آخر تحديث: 15:21 (بيروت)

وِحدة

الخميس 2014/07/31
وِحدة
increase حجم الخط decrease

تمسك جهاز التحكم من بُعد بيديها الاثنتين. حتى الآن، لم تتخطَ خوفها من أن ينتزعه منها أحد. أخيراً أصبح ملكا لها هي، وحدها. لا تستمع لنشرات الأخبار ولا تضطر لمتابعة مباراة مصارعة حرّة بين نساء يشبهن الرجال بعضلاتهن المنتفخة.

لا تبدّل المحطة حتى لو لم تثر اهتمامها ببرنامج تعرضه. فقط تفرح باحتضان الجهاز. أولاً، لأن هذا الأخير اعتاد أصابعها الهزيلة ولم يعد يلبّي أوامرها بسهولة. ثم أنها، منذ زمن بعيد، تتابع برامج "إل بي سي". وذلك، بالطبع، بعدما ملّت من "تلفزيون لبنان" الذي لا ينفك يعرض المسلسلات نفسها. لم يكن الساتلايت موجوداً عندما اقتنت أمها تلفازاً. لم تعتد عليه يوماً، ولا تحب الأفلام المدبلجة التي يبثها.  


لا تنظر إلى الشاشة. في الحقيقة، تحدّق بكُرة صغيرة من الشعر والغبار تظهر من تحت الطاولة حيث وضعت الصندوق الأسود الكبير، مؤنسها. تخلت عن عادة مسح أرض الدار كل يوم. لا تريد أن تهدر المزيد من الوقت في تنظيف وترتيب البيت - علماً أنه ما من أعمال أخرى تشغل نفسها بها.. ما عدا التفكير.  

*** 

"الإنسان لا يستطيع أن يعيش وحده". كانت تحثني أمي على الزواج من أي كان. لم أكن صراحة، أرى أي عيب في أن يعيش الإنسان وحيداً. على العكس، استنتجتُ منذ سنوات بعيدة أن المصائب والمتاعب غالباً ما يكون مصدرها أشخاص آخرون يحتلون مساحة من الحياة، كان في الإمكان أن تكون لنا. 


لكنني تزوجت أخيراً. وعندما توفي زوجي، لم تكن أمي على قيد الحياة لكي أسألها: "كيف يعيش الإنسان وحيداً؟"، أوبخها بصوت عالٍ لأنها ظلّت تلاحقني حتى نسيت. كنت لأصرخ بوجهها وأخاطبها: "تفضّلي! إنتِ نسّيتِني، فأنتِ ارجعي وعلّميني". أعرف أمي جيداً. كانت لتصمت وترمقني بنظرات فيها شيء من العجز أو الأسف. ومع ذلك، لن تعترف بأنها كانت على علم مسبق بأن الزواج لا يقتل الوحدة، وأن شيئاً يقتلها أصلا. ثمّ أنها لم تحذرني حتى من أني، رغم مشاركتي السرير مع زوجي المستقبلي، سأظلّ وحيدة. وسادتي لي أنا وحدي، وكل ما يجول في خاطري متى أضع رأسي لأنام، لي أنا. حتى آثار البلل على الوسادة، قبل أن ينشف، لي أنا وحدي. ربما لو صارحتني بكل هذا لما تزوجت أبداً.

*** 

ضغطت بقوة على مفتاح الصوت أسفل الجهاز لكي ترفعه أكثر، بشكل يمكّنها من الاستماع إلى تتمّة البرنامج فيما تحضر القهوة في المطبخ. تستمع إلى برجها كل يوم. وفي كل يوم تنبؤ مختلف. لكن الأيام التي تمضيها في البيت كلها متشابهة. تكاد لا تميز بعضها عن بعض لولا روزنامة أخوية "الحبل بلا دنس" المعلقة على باب البراد. لم يكن زوجها يطيق تلك الروزنامة، وكان يرفض أن تخرج ليرة واحدة من جيبه أو من جيب زوجته لصالح الأخوية. ومع ذلك، في آخر أيامه، لم يكن يرضى أن ينتزع أحد غيره الورقة المكتوب عليها تاريخ اليوم الذي يزيّنه مثل شعبي.


تردّدت قبل أن تنتزع الورقة من الروزنامة وترميها في سلّة النفايات. "مرمر زماني ويا زماني مرمر، كل ما كبر شوقي إلك عم إكبر..." تدندن فيما تنتظر غليان الماء على النار.

تحضر القهوة مرّة، مع أنها تفضلها حلوة. لكنها اعتادت على زيادة السكر في فنجانها لأن زوجها كان يحبها مرّة، "متل لسانو". تفكّر كيف أن زوجها مات لكن العادات لا تموت. ما زالت تضع يديها تحت فخذيها عندما تجلس، إذا كان عندهم زوّار في البيت. لطالما اعتقد زوجها أن يديها كبيرتان جداً لتكونا جميلتين. 


ترتشف القهوة فيما تستمع للأبراج. ثم قبل أن تعود إلى سريرها، تغيّر القناة للمرة الأولى منذ فترة بعيدة. على شراشف السرير المقلمة بالأخضر والزهري، تفكّر أنها نسيت أن تخفض صوت التلفزيون. لكنها تعرف أنها بعد ثوان قليلة ستغفو، فلقد اعتات النوم على أصوات نساء يتعاركن من دون سبب.

increase حجم الخط decrease