الأحد 2014/07/20

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

المجرمونَ الآخرون

الأحد 2014/07/20
المجرمونَ الآخرون
increase حجم الخط decrease

ينتشرُ فيديو جريمة الطفلِ السوريّ الذي يتعرّضُ للضرب في لبنان على يدِ طفلٍ آخر بتحريضٍ من أهله انتشارَ النارِ في الهشيم، ويمنحُنا التطور التقني فرصةً كبرى ويتيحُ لنا المجالَ لنمارسَ "كعادتِنا" في الشرق الأوسط الرائع بهائميّتنا بأبهى صورةٍ ممكنة، إذ ينتشر الفيديو نفسه على شبكةِ اليوتيوب بأسماء متعدّدة، يُطلقُ كلّ منها حسبَ انتماءِ الجهةِ التي تنشرُ الفيديو سواء كانت سياسية أم دينية.

 

وكأنّ الجريمة في الفيديو - والذي يُركّز فيه على اسمِ: عبّاس، بشكلٍ يُذكّرُ بالتركيز على اللهجة أو الأسماء في الفيديوهات التي انتشرت عن جرائم النظام السوري في بداية الثورة - وكأن هذه الجريمة ستصيرُ أقلّ وطأةً فيما لو كانَ اسمُ الضاربِ مختلفاً. ومن المرجّحِ أن يكون هذا الأمر صحيحاً. ذلكَ أنّ شعوبَ المنطقة لا تملكُ جرأةَ الاعتراف بأخطائها، وتجدُ في الآخرين الشماعة المُثلى لتعليقِ كلّ بلوى أو انحطاط أخلاقيّ، ما يجعلُ المنطقة برمّتها مركزاً للتردي الفكريّ هذه الأيام، فطالما أنّ الأمرَ فيهِ انحطاط فهوَ حتماً من صنعِ هؤلاءِ الآخرين!

 

منذُ الصباح، وصلني الفيديو بأكثرَ من تسمية، إحداها: جريمة بحقّ الإنسانية. وأخرى باسم: عائلة لبنانية تطلب من ابنِها ضرب طفل سوري. وثالثة ذهبت أبعد من ذلك وكانت واضحة: عائلة شيعية لبنانية تعذب طفلا سنيا سوريا، وهذه الأخيرة أُرفِقت بكتابة في المنطقة المخصصة للتعريف بالفيديو على اليوتيوب جاءَ فيها "وزع المجرم حسن نصر اللات أيتام سوريا على عائلات لبنانية شيعية بدعوى رعايتهم لكن دين الشيعة مثل دين اليهود في قتل وتعذيب من ليس على دينهم ولو كانوا أطفالا."

 

أما التسمية الرابعة فكانت: طفل مسلم سوري وآخر شيعي لبناني - إذا شاهدت الفيديو ولم تفهم فأنت مريض. وفي الجمل التعريفية جاء: "بكل بساطة - هكذا يتم تنشئة وتربية الشيعة لأبنائهم ... بهذه الطريقة يربي شيعة إيران في لبنان والخليج أبناءهم على كرهنا والاعتداء على أطفالنا!!"

 

وإذا أعدنا النظرَ في التسمياتِ السابقة، نرى أنّنا إذا استثنينا الأولى "وهيَ الأهمّ!!" سنجدُ البقيةَ تؤيدُ فكرةَ أنّ "الجريمة يرتكبها الآخرون". وشأنها شأن عبارات درجت في البلدان العربية ما قبلَ الربيع العربي بسنوات من مثل: الأردن أولاً، سوريا أولاً، مصر أولاً، لبنان أولاً... إلخ تعزّزُ التوهّمَ الذي يوصلُ للكارثة بأنّ بلداننا ومجتمعاتِنا مختلفة عن بلدانِ ومجتمعاتِ الآخرين.

 

 الضخّ اللامتناهي لتغذيةِ الروحِ العدائية بينَ الشعوبِ (وهذه العبارة تبدو للوهلةِ الأولى بعثيةً)، يستمرّ بتسارعٍ مضطرد تزامناً مع حالة الغليان العامة التي لامسَ انفجارُها المقدّسَ لدى شعوبِ المنطقة، في خلخلةٌ قد تكونُ من المنجزات الأكثر أهمية للربيعِ العربيّ. لكنّهُ في الوقتِ ذاتِهِ ينذرُ بانفجارٍ باتَ قريباً أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى في المنطقة وصراعاتِها تبدو الحيلولةُ دونهُ ضرباً من ضروبِ المستحيلِ، طالما أنّ البنيةَ الفكريةَ لمجتمعاتِنا أساسُها أنّنا متميّزونَ عن سوانا مناطقياً أو دينياً أو مذهبيا أو حتى سياسياً.

 

في إحد مقاطعِ كتابه "بحث في الفكر الرجعي" يقولُ المفكر إميل سيوران: "الذينَ ينتمونَ إلى حزبٍ من الأحزاب، يعتقدونَ أنهم يتميزونَ عن أولئكَ المنخرطينَ في حزبٍ آخر، والحال أنّ جميعهم يلتقونَ في العمق، وفي طبيعةٍ واحدة، بمجرد لجوئهم إلى الاختيار، ولا يختلفونَ إلّا في الظاهر، أي حسبَ القناعِ الذي اختاروه. ومن الجنون أن نرى أنّ الحقيقةَ كامنة في الاختيار ما دامَ كلّ اختيارٍ أو تحديدُ موقفٍ يعادلُ الاستهانة بالحقيقة. ومن سوءِ حظنا أنّ الاختيارَ واتخاذُ الموقف قدرٌ لا مناصَ لنا منه. كلّ واحدٍ منا مكرهٌ على اختيارِ اللاحقيقة والخطأ."

 

لا يعني ما تقدّم الرغبةَ في تبرئةِ المجرمينَ الذينَ كانوا وراءَ الفعلة الشنيعة في إجبارِ طفلٍ على ضربِ طفلٍ آخر، بل من الواجبِ متابعةُ المسألة قانونياً وإخضاعُ المجرمِ للعقاب الذي يستحقّ. كما لا يعني تبرءةَ فئةٍ ما بحكمٍ إطلاقيّ مثلما لا يعني أيضاً اتّهامها. ذلكَ أننا وقبلَ أيّ شيء أمامَ جريمةٍ لا يجبُ التساهلُ في محاسبةِ مرتكبيها، وتناسيها بكيلِ الاتهاماتِ يميناً وشمالاً بدوافعَ سياسية أو دينية مذهبية.

 

إنما يعني بالدرجة الأولى أننا أمامَ كارثة إنسانية وفكرية، تتمثّلُ في اختلافِ التعاطي مع الجرائمِ بحسبِ ميلِ أو انتماءِ مرتكبها. فماذا يعني السؤالُ عن دينِ أو مذهبِ أو حزبِ الشخص الذي قتلَ طفلاً ورماهُ في حاويةِ المهملاتِ قبلَ مدة، سواءٌ كانَت جنسيةُ المغدورُ أو الغادرِ سورية أو لبنانية؟ ماذا يعني هذا؟

 

ثمّ ما قيمة معرفةِ الناسِ عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ اسم ودين وانتماء الطفلِ الذي يضربُ طفلاً آخرَ في الفيديو الأخير؟

 

هل ثمّةَ في القوانين الوضعيةِ ما يجعلُ الجريمةَ نصفَ جريمةٍ فيما لو كانَ عبّاس، اسمُهُ عمر أو جورج أو مارون أو معروف؟

 

لم يذكرِ التاريخُ أنّ جمال باشا السفاح مثلاً كانَ يقابلُ مناهضيهِ بأقلّ من الخازوق؟! كما لم يذكر أن جمال باشا السفاح كانَ صليبياً!

 

وتوخياً للدقةِ قدرَ المستطاع، يجبُ عدم تجاهل مسببات حالة الهياج لدى السوريّ إثرَ كلّ حادثة مشابهة يتعرضُ لها سوريّ في أيّ مكان، ذلكَ أنّ هذا الهياجَ مرتبطٌ بشكلٍ أساسيّ بالمظلوميةِ المحقّة التي باتت في نفوسِ السوريينَ عموماً، بغضّ النظرِ عمّا إذا كانَ شخصٌ أو جماعةٌ ما يعتبرونَها فرصتهم لممارساتٍ سلبية بدونِ عواقبَ كبيرة تترتب عليها.

 

السوريونَ تعرّضوا لمقتلةٍ بدونِ شكّ، ولحقهم ظلمٌ وحيفٌ عزّ نظيرهُ في العصرِ الحديثِ لأيّ من شعوبِ الأرض، وهذا الاعترافُ لا منّةَ لأحدٍ عليهم فيه. لكنّ الإشكالية الكبرى الآن هيَ في الدفاعِ عن فئةٍ بوصفِها متميّزةً أخلاقياً عن سواها!

 

الأمرُ الذي سيستمرُّ ما لم نواجه أنفسَنا بعيوبِنا، ونعترفَ بأخطائنا، لا كشعبٍ سوريّ أو لبنانيّ أو أو.. إنما حتى كفئاتٍ دينية ومذهبية.

 

عدا عن ذلكَ فإنّ الأمورَ ذاهبةٌ بانفجارٍ لن يبقي ولن يذر في المنطقة برمّتها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها