الثلاثاء 2014/07/22

آخر تحديث: 16:39 (بيروت)

أنا جبان

الثلاثاء 2014/07/22
أنا جبان
increase حجم الخط decrease

عدوان تموز. حرب تموز. حدث ذلك قبل ثمانية أعوام بالتمام والكمال. أمرّن نفسي على توضيب تفاصيل الحرب ورميها في أقصى زاوية من زوايا الذاكرة. لكنها تتراءى أمامي صوراً طريّة وطازجة، لها في أنفي رائحة.

ذاكرتي تشتعل بصور الحرب ولا تنطفىء. الحرب وضعت أوزارها بالأمس. هذا ما أشعر به. أستعيدها بغير ترتيب زمني مفيد، وأتأملها بعينين ساهمتين.

 

الصورة الأولى:

جلبة في محل الهدايا والعطورات فوق منزلنا الكائن تحت الأرض. كنا نسكن في قرية جنوبية. ألج ببطء إلى المحل وأحدق إلى الأم وولديها الذين وقفوا أمام شاشة تلفاز صغير موضوعة على سطح رف من الألمنيوم. أنظر من خلف رؤوسهم إلى مشاهد دماء ودمار. الأم تلتفت إليّ وهي تضع يدها على فمها كأنها تكبت شيئاً ما. قتلوا فلان. كان يبيع الصبار المقشر. يقول الإبن الأكبر.

الصورة الثانية:

لم أستطع تحمل الخوف في عيون أمي وشقيقتي. تخليت عنهم. تركتهم وهرعت بخوفي إلى قرية أخرى اعتقدت أنها أقل خطراً. لم أتمكن طوال الطريق أن أحتمل الشعور بتمزق جسدي وتناثره أشلاءاً إذا استهدفت بصاروخ.

 

الصورة الثالثة:



الساعة الواحدة فجراً. زوجة خالي وابنها وابنة خالتي نائمون. هدير المروحيات يخترق صمت الليل. جلست على الكنبة وأشعلت سيجارة. تكتكة الساعة كانت أكثر إزعاجاً من أصوات المروحيات. خرجت إلى الشرفة. حدقت ولم أرَ. سمعت. كان صوتاً يشبه الزئير تبعته إلتماعة تخطف البصر، ثم دوي هائل. السلالم صارت مليئة بالناس. جلست قليلاً ثم وقفت واستندت إلى الحائط. جلت بنظري الذي وقع على صدر الفتاة الجالسة بقربي وقد أصبح ثدياها تحت عيني. أطلت النظر إلى أن رمقتني ابنة خالتي بنظرة ماكرة وساخرة. كانت فتاة جميلة ومتزوجة من أحد أبناء مالك البناية. هي نفسها التي ألقت بالسلام على ابن خالي ذات مرة وانحنت لتلتقط غرضاً فجحظت عيناه على ما انكشف من ثدييها. تسمر في مكانه وكنت بحاجة لأن أهزه وأدعوه بصوت عال لنكمل طريقنا.

 

الصورة الرابعة:

عدت إلى دير قانون النهر. صوت أمي على الهاتف كان مخيفاً. عاتبتني كيف تركتها وشقيقتيّ ولم أخبرهن بمكاني. كانت تقول لي "أنا أموت. تعال". أمي وأختاي كنّ جالسات على مقاعد الصالون. لم يكن يحدث هذا من قبل. خطوت إلى الشرفة. رمادي السماء كان كئيباً وموحشاً. سحب الدخان ترتفع من خلف الجبل المقابل، ودوي الإنفجارات عميق. دعتني أمي لآكل. تناولت لقمتين من وجبة المسبحّة التي كانت شديدة الحموضة فعززت انعدام قابليتي للطعام. جلسنا نحدق في أعين بعضنا البعض.

 

الصورة الخامسة:

أجلس على كرسي بلاستيكي بجوار أمي. أرخي وجنتي على الحائط الذي كنت أتحسس نتوءاته في وجهي. ألقي نظرة إلى جوزيف الذي التحف ببطانية من الصوف في عز الحر، وهو يهذي بصوت مسموع "أني خيفين". لم يسبق لجوزيف أن تملكه الرعب كما كانت حاله وقتها. أي منذ وقع تحت أيدي عناصر من ميشليا "القوات اللبنانية" إبان الحرب وأقنعوه بالتعذيب أن اسمه جوزيف. جوزيف يرتجف ويرتفع صوته. يد تختطف يدي وتلثمها. فعلت أمي هذا بحنو وخوف رهيبين. عدت طفلاً. بكيت.

 
الصورة السادسة:


أمي ترمي حذائي الذي لم أخلعه منذ ثلاثة أيام متواصلة نمت فيها على السلالم. رائحة قدمي ظلت مقززة رغم أني غسلتهما جيداً. إنسللت إلى غرفة النوم في البيت المحاذي لما كنا نعتبره ملجأ حيث تجمع شبان على السرير. جلست بينهم وفاحت الرائحة. سحبت قدمي ببطء من بين الشبان وأنزلتهما إلى الأرض. في هذا الوقت كان السباب والتقريع قد انهالا على شخص آخر مشهور برائحة قدميه. رنوت إلى السقف وتخيلت كيف أني سأموت إن هبط عليّ. نمت 18 ساعة. غرقت إلى رأسي في النوم. فعلت هذا كالأموات. لم أحلم بشيء ولم أسمع غارات الطيران التي كانت تقتل أناساً على بعد مئات الأمتار مني.

 

الصورة السابعة:

الكراسي الثلاثة فارغة. جلت بنظري ولم أجدهنّ. الصاروخ الذي دمّر المنزل المقابل أخفاهن. دخلت إلى المطبخ وكن يرتجفن. جلسن في زاوية المطبخ وأجسادهن متلاصقة، وأمي ترتجف. تفعل هذا كأنها ترقص مكرهة.


الصورة الثامنة:


أقف أمام حشد من أهالي القرية. أسير بينهم وأتذكر حسن الذي رأيته قبل ساعات من زئير ذلك الصاروخ الذي قتله. يبتسم بحياء ويضحك بخفر. أمه تبكيه بصمت. إمرأة جميلة رغم كبر سنها. بكاؤها جعلها أكثر جمالاً مما هي. يهال التراب على حسن. البعض يخطف نظرة إلى أعلى حيث المروحيات ثم يلقي بأخرى إلى القبر.

 
الصورة التاسعة:


أمي تلعن الرب ولا تكف عن ذلك. بدت كإمرأة مجنونة فقدت عقلها للتو. تسحب الأغراض من البراد وتنهال عليّ بالسباب. تهيأ لي أن الله سيعاقبنا في هذه اللحظة جميعاً. أن المروحية التي على مرأى مني ستقذفنا بصاروخ يحيلنا رماداً.

 

الصورة العاشرة:

السيارة تعبر طريقاً ترابية مبقورة بفجوات واسعة وعميقة من آثار الصواريخ. تروزني أمي بنظرة غاضبة. أشيح بوجهي عنها إلى النافذة. وقود السيارة نفد عند وصولنا إلى صيدا. هربت. فتحت الباب وتركتهم خلفي وركضت. لم أكن أبحث عن وقود. كنت أبحث عن حياة قد تهرب مني. جبنت. كنت جباناً حينما فعلت هذا وكانت أمي وأختاي ينتظرن مني أن أنقذهنّ.

 

الصورة الحادية عشر:

أجلس على كرسي أمام البار في أحد مقاهي سبيرز. كنت أعرف أن الحرب التي انتهت لتوها إنتهت معها إمكانية اللقاء بسارة. سارة التي أحببتها كثيراً. تعمدت أن أجلس خلفها. أرنو إليها بطرفي وأشم رائحتها. استبقت حضورها وكتبت لها ما اعتقدت حينها أنه شعر. لم يكن كذلك. كانت أشياء سخيفة لا معنى لها ومضحكة. إنتهت الحرب وغادرت سارة. سلمتها الورقة التي بحت فيها بحبي لها ومضى كل منا في طريقه. أعتقد أنها مزقتها وضحكت كثيراً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها