السبت 2016/03/05

آخر تحديث: 15:24 (بيروت)

إيقاعات لا تتوقف

السبت 2016/03/05
إيقاعات لا تتوقف
increase حجم الخط decrease
1
سمعت  "الهاوس" و"التيكنو" للمرة الأولى في فترة مراهقتي، أي بعد أقل من عام على انتقالي من الهرمل إلى بيروت. بالنسبة لي، كان الامر أشبه باكتشاف "عالم صوتي" جديد يقدم لك طبقاً من المشاعر الجديدة. ليست موسيقى على الأرجح ولا تشبه الأنغام التي اعتدتها، كما أنها تخلو من أي "رومانسية" أو حنين. ايقاع واحد وسريع يعاد إلى ما لا نهاية.

أعلمني صديقي يومها أن هذا النمط لا بد يلائمنا أكثر من الأنماط الأخرى. كان يقصد سرعة الإيقاع التي تشبه بحسبه وتيرة دقات قلوبنا نحن الشباب، بعكس موسيقى الكبار في السن التي تتباطأ ايقاعاتها كما تتباطأ دقات قلوبهم. سارعت بعد حين إلى تغيير أغنية لويس آرمسترونغ  A kiss to build a dream on  التي كنت أضعها كرنة لهاتفي المحمول. قمت بذلك لكي أبعد أي تهمة "بطء" عني.

يُقال دائما إن "الهاوس" تُشعر المستمع أنه قد تحول إلى آلة. نفس الضربة تعاد مئات المرات، ما يجعل الزمن ثابتاً. لا تتطور نغمات الأغنية ولا تتحول. فقط طبقات ايقاعية تتراكم فوق بعضها البعض.

في محاولة للتقليل من شأنها، يقال أن "الهاوس" نوع بسيط، حتى أن البعض ينفي عنه صفة الموسيقى. لا أعرف إذا كان هذا الكلام سيقلل من شأنه فعلاً. ربما أحيانا.. نحن لسنا بحاجة إلى سماع موسيقى.

في كثير من الأوقات توضع مقاطع صوتية لأفلام خيال علمي مع تلك الأغاني أو حتى أصوات كائنات غريبة تزيد من الإنطباع "المستقبلي" لسماعها. تخبرك الآلات الإلكترونية أكثر عن نفسها من خلال تلك الأصوات وتُعلمنا بأننا نسخة عنها.

نتحول إلى آلات عندما نستمع إلى تلك الموسيقى مثلما نتحول إلى بيانو أو ترومبيت عند استماعنا للجاز. دائما نصبح الآلة التي نستمع إليها.

2
في فيلم "الريح سوف تحملنا" لعباس كياروستامي، تصعد الشخصية الرئيسية مرات عدّة إلى التلة العالية فوق القرية. تعيد الفعل نفسه في كل مرة تريد التحدث على الخليوي بسبب ضعف إرسال الشبكة في القرية. المشهد نفسه يُعاد خمس أو ست مرات خلال الفيلم. لا يغير كياروستامي كثيراً في تلك المشاهد. نرى الحقول نفسها والأشجار نفسها وحتى تعابير وجه الرجل الجالس داخل السيارة تبقى نفسها.

لكننا نحن من يتغير. نشاهد تلك الشخصية في كل مرة بطريقة مختلفة عن الأخرى. نظن أنها لم تعد نفسها ولو أنها قد بدت كذلك من الخارج.

المثير في الأمر أن تلك المشاهد المتكررة تحدث في فيلم. في العادة، لا يكون هناك متسع لذلك النوع من الترف في الأفلام. كل شيء يكون في غاية الدقة والوضوح. يبدأ الفيلم في العادة من مكان ساكن ثم يتقدم بطيئا إلى أن تلتقي الشخصية الرئيسية مما يحول في مسارات عيشها. ثم توضع أمام تحديات ذلك التحول وتلاقي الصعاب إلى أن نصل قبل نهاية الفيلم بدقائق إلى قمة الإثارة.

لا نرى هذا النوع من الترف في الأفلام في العادة. أن تقوم الشخصية الرئيسية بفعل عبثي لهذه الدرجة، يبدو أمراً مستغرباً. لم يصعد الرجل من أجل النظر إلى الحقول أو من أجل التفكير في مآلات حياته من مكان مرتفع عن القرية. صعد من أجل التكلم على الهاتف.

في إحدى التسجيلات لأغنية "بعيد عنك"، تصعد أم كلثوم إلى أعلى التلة تلك وتعود خمس أو ست مرات. عندما يأتي مقطع "بيني وبينك خطوتين" تصعد ثم تنزل ثم تعيد الصعود. تقول: "كنت باشتاق لك وأنا وأنت هنا، بيني وبينك خطوتين". ثم تنزل. لكن الست لا تعيد الجملة بالطريقة نفسها. في كل مرة تزيد عليها شيئاً وتنقص شيئاً. بين كل جملة وأخرى تعاد، يتغير أمر ما.

لكننا نحن من نسمع التسجيل ونحرك رؤوسنا بالطريقة نفسها وبالإيقاع نفسه. لا نريد لشيء أن يتغير. نريده أن يُعاد المقطع نفسه إلى ما لا نهاية.

لا نريدها أن تقول في النهاية "والعمل آيه العمل؟ ما تقول لي أعمل آيه؟".

3
كانت أغنية "ليلي" لـ"آرون يو تورن" قد أُعيدت عشرات المرات هذا المساء. لا تمل صديقتي منها، وأنا بعد المرة الثالثة توقفت عن سماعها. يلغي الدماغ وعي الفعل عند إعادته ويصير تعامله معه شبه أوتوماتيكي. طلبت مني أن أبقيها تُعاد كي تتمكن من النوم. هكذا تعودت. تقول لي.

كانت تقف قرب أحد المنحدرات الجبلية المطلة على المدينة مع صديقة قديمة من المدرسة. لم تكن قد رأت تلك الفتاة منذ زمن قديم. نظرت نحوها فجأة وسألت عن سبب وجودها معها بعد كل هذا الوقت، وفي مكان غريب كهذا. أتى صوت زمامير الشاحنات خفيفاً من المدينة البعيدة. ربما لأن الوقت عند الفجر.

كانت المفاجأة عندما ارتفع صوت كاظم الساهر عالياً في المكان: "يا سيدي مسي علينا أو حتى لمّح بكلمة". أتى الصوت من مكان مرتفع قرب التلة العالية فوقهما. لم تعد أصوات المدينة المتفرقة والخفيفة تسمع من ذلك المكان وقد طغى عليها صوت كاظم الساهر. ظنت أولاً أن مسجداً غير مرئي لها وضع أغنية كاظم الساهر بدل الأذان من طريق الخطأ. شعرت بذعر شديد وصارت تحاول الهرب من الصوت لتخفيه. لم تنجح. كان مرتفعاً جداً كأنه آتٍ من السماء أو كأنه الله. لم تعرف أنَّ هذا مجرد حلم.

وضع أحدهم على "صاوند كلاود" أغنية "يا سيدي مسي علينا" لكاظم الساهر. لم أكن قد سمعت أي شيئاً له قبل زمن طويل مع أنه لطالما كان المغني المفضل لديّ في طفولتي. ضغطت على الأغنية وبدأت بسماعها. لم تمر ثوانٍ قليلة حتى استيقظت صديقتي مذعورة. نظرت إليّ بشكل غريب كأنها تراني للمرة الأولى ثم طلبت مني أن أوقفها.

تعيد الأغاني نفسها إذا شعرت أنها ضائعة ولا تعرف ماذا تريد. تعود إلى أغنية أليفة وتسمعها مرات عدة لإشباع شعور بالأمان داخلها. أحياناً أخرى تستمع إلى أغنية للمرة الأولى فتعطيها إحساساً عارماً بالحياة. تصير تعيدها قدر الإمكان كي تستهلك ذلك الشعور قبل أن ينتهي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها