الأربعاء 2016/03/16

آخر تحديث: 08:17 (بيروت)

"حارس الموتى" لجورج يرق: سِحر الحرب المَرَضي

الأربعاء 2016/03/16
"حارس الموتى" لجورج يرق: سِحر الحرب المَرَضي
"المصادفة وحدها مسؤولة عمّا أعانيه الآن"
increase حجم الخط decrease
عجيبٌ هو بطل رواية جورج يرق الثانية "حارس الموتى"(منشورات ضفاف- الإختلاف): فبالرغم من تكراره، بلا كلل، أنه يكره الحرب والقتل وحمل السلاح، لا ينفك يجد نفسه، عند كل منعطف من مغامراته، بجوار الموت والعنف بأشنع أشكالهما. هو يعزو ذلك إلى الظروف والصدفة المحضة، لكن مجريات القصة التي يرويها تحيل تصديقه أمراً عسيراً.

"المصادفة وحدها مسؤولة عمّا أعانيه الآن" (ص 7)، يَستهلّ عابر ليطاني حكايته، فنحارُ إن كان يُشير إلى مصيره الذي سنكتشفه لاحقاً، أم إلى المأزق الذي هو فيه حالياً: فهو قد عثر عَرَضاَ على أستاذ مدرسة الضيعة المخطوف، مضرجاً بدمائه ومرمياً بمحاذاة مكبّ نفايات. لسوء حظّه، يلمحه المُدرِّس ويتعرف إليه. نحن في العام 1978، في أيام القتل والخطف العاديَّين، فيخشى عابر أن يطاله ثأر الحزب الذي ينتمي إليه الأستاذ، يغادر ضيعته هارباً إلى بيروت المشتعلة قتالاً والتي لم تطأها قدماه من قبل.

يعيش أولى أيامه متشرداً في شوارع العاصمة، فلا يجد سبيلاً لتفادي الجوع والبرد، سوى عبر انخراطه مقاتلاً في أحد الأحزاب. يخضع لقسوة التدريب العسكري وذلّه، فتُناط به مهمات قَنّاص لمهارة أبداها في الرماية، مصدرها ممارسة طويلة لصيد العصافير. إلا أنه يمتنع عن قتل أي شخص، حتى خلال المعارك، مبدياً بذلك إخلاصاً لمقولته، التي يكررها كل بضع صفحات، حول كرهه العنف والحرب والأحزاب. يكتفي بدور المشاهد السلبي، فيصِف لنا حياة عناصر الميليشيات اليومية بواقعية قاسية: إشتباكات واغتيالات، نهب واغتصاب، سكر ومخدرات وعاهرات. أضف إلى ذلك، أن لا أحد من المسلحين يفقه شيئاً في القضيّة التي يُحارب من أجلها.

بعد مَقتل صديقه المُقرّب عزيزي في ظروف غامضة، يَفرّ عابر من الحزب خشية من أن يلقى المصير نفسه، فيعثر، عبر سلسلة من المصادفات، على عمل في قسم الطوارئ في أحد المستشفيات: العناية بالجثث في برّاد الموتى. وهنا يبدأ النصف الثاني من الرواية.
يَتّضِح سريعاً أن المُستشفى التابع لمؤسسة دينية مسيحية، ليس سوى الوجه الآخر للميليشيا وارتكاباتها. فالفساد متفشٍ على كل المستويات، من الطاقم الطبّي الذي يُقنع المَرضى بالخضوع لعمليات جراحية باهظة الثمن هم بغنىً عنها، مروراً بالراهبة المسؤولة عن قسم الطوارئ التي تبيع الأدوية المُقدمة للمستشفى كهبات، وصولاً إلى برّاد الموتى نفسه، حيث يشرع عابر، من بين أمور أخرى، بنزع الأضراس الذهبية من أفواه الجثث. أخيراً، وبعدما كان اعتقد أنَّ المستشفى مكان آمن للتواري، يُختطف عابر ويلاقي مصيراً شبيهاً بمصير أستاذ الضيعة. هكذا تكتمل دائرة العنف، وتحيلنا إلى مطلع الكتاب.

للوهلة الأولى، تبدو "حارس الموتى" رواية عن عبثية الحرب واستبداد الصُدف بأقدارنا. فالأحداث العشوائية هي التي تدفع بطلها من جحيم إلى آخر، دون أن يكون له أي يد في ذلك. لكن سؤالاً بديهياً يطرح نفسه: هل بمقدور المُصادفات وحدها حمل شخص يمقت العنف والقتل وكل ما يمت إليهما بصلة، على الإنخراط في ميليشيا ثم العمل في برّاد موتى؟ فعابر لم يكن أبداً مرغماً على الارتماء في أول فرصة أو صدفة يجدها في طريقه، إذ كان باستطاعته التريث ولو قصيراً في انتظار الفرصة التالية. لا بد إذاً أنه مفتون بالعنف والموت. هو لا يعي ذلك، فيمتنع عن أي فعلٍ قد يضطرّه إلى الاعتراف بهذا الإفتتان لذاته. إلا أنه يضع نفسه دائماً في موقع المُتفرج أو حتى المُتلصص، فيروح يَصف أشنع أعمال العنف ببرودةٍ ليست ربما سوى قناعٍ يُخفي لذة عارمة. والدليل علاقته بموتى البرّاد الذين يحرسهم ويعتني بهم: فبعد القرف الأولي من الجثث، تأتي الإلفة معهم، ثم المودة نحوهم، فالوقوع تحت وطأة سحرهم الذي يصل بعابر إلى حدّ اشتهاء جثة صبية جميلة بالكاد ينجح بكبح نفسه عن مضاجعتها. وها هي الأخت كريستسن، الراهبة المسؤولة عن قسم الطوارئ، تُدرّب عابر على الاعتناء بالموتى وتنظيفهم: ما إن تلامس يدها العضو الذكري لإحدى الجثث، حتى تتملك عابر شهوة جنسية لم يختبر مثيلتها من قبل.

وعابر بتول كان لا يفكّر مطلقاً في الجنس، وحدها الحرب أيقظت شبقه. فـ"حارس الموتى" ليست قصّة عن أهوال الحرب، بل عن إغراءاتها وسحرها المَرَضي. وربما ما يُطلق عليه عابر تسمية "المصادفات" ليست سوى غرائزه المكبوتة التي وجدت في الأحداث اللبنانية فرصة ملتوية للاشباع، وهو على الأرجح حال كثيرين.

لذلك، ولأسباب أخرى منها جرأة الكاتب وسرده الشيّق، تستحق رواية جورج يرق هذه، مكانتها على القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر العربية)، على عكس ما عودتنا عليه لجان التحكيم المتعاقبة في السنوات الماضية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها