الإثنين 2014/07/21

آخر تحديث: 10:34 (بيروت)

مشاهد من خلود مرهق

الإثنين 2014/07/21
مشاهد من خلود مرهق
increase حجم الخط decrease

"إختراع موريل" هي الرواية الأولى، بل العمل الأوّل لأدولفو بيوي كاساريس الذي ينقل إلى العربية. كان مواطنوه الأرجنتينيون مثل خورخي لويس بورخيس وخوليو كورتاثار وأرنستو ساباتو أوفر منه حظاً، وإن بنسب متفاوتة خصوصاً بما خص أوّلهم بورخيس الذي كثيراً ما جرى تقديمه إلى قرّاء العربية حتى بات، لبعضهم، أكثر الأصوات تأثيراً بين ما عرف عندنا من الأدب العالمي. كاساريس كان "تلميذاً وصديقاً لبورخيس"، والكاتبان اشتركا بكتابة خمسة كتب حملت توقيعهما معاً. ويذكر أنّ بورخيس كتب مقدّمة للرواية أثبتت في مقدّمة الكتاب، جنباً إلى جنب مع مقدّمة أخرى عن أدب كاساريس كتبها خوليو كورتاثار.

يشير التقديم للرواية إلى صعوبة قراءتها، ناصحاً بإعادة قراءتها ليتضح ما يخفيه نصّها الذي يكاد يكون وحشياً في سرعته. كما يمكن أن يكون خادعاً أيضاً إذ تتتالى فيه مقاطع من طبيعة سردية حكائية بما يغري بقراءة متعجّلة. لكن دائماً هناك ما يفوت، والقارئ يكتشف ذلك لدى عمله بنصيحة التقديم فيقرأ المقطع، بل الجملة، مرةّ ثانية ليكتشف أنه كان يمكن له أن يغضّ عن معناهما في القراءة الأولى. وما يزيد القراءة صعوبة هو المستويات المتعدّدة التي تتنقّل بينها الرواية. فهي حقيقية ورمزية وفكرية وكلّ ذلك مندمج ومتداخل في صياغة واحدة، كما أنّها تجمع بين ما اعتدنا قراءته في روايات النفي والعزلة، إلى التساؤل عن معنى الحياة والموت مدخلة إلى ذلك ما تمكن نسبته إلى الخيال العلمي. كلّ ذلك يثقل الرواية التي تؤرجح قارئها بين مستوياتها، بل مقاماتها، المختلفة.


وما يزيد في صعوبة القراءة أيضاً هو أنّ الرواية لا تفصح عن سرّها إلا في فصولها الأخيرة، وليس دفعة واحدة على أيّ حال، طالما أنّ سيل السرد لا يتوقّف عن فتح أبواب جديدة حتى سطر الرواية الأخير. سيكون علينا أن نتردّد كثيراً قبل أن نعرف لماذا لا ينتبه أولئك القادمون إلى الجزيرة لوجود ذلك الهارب المتخفّي الذي جازف بتعريض نفسه أكثر من مرّة للانكشاف أمامهم. كان، هو بطل الرواية، قد تولّه بتلك المرأة (فوستين) التي راح يشاهدها متأمّلة الغروب (وهذا ما يضيف إلى تعدّد عوالم الرواية جانب الشغف الغرامي). سحرته نظراتها التي لا يكاد يصرفها شيء عن ساعة الغروب تلك، وهو الهارب من احتمال أن يعاقب بالموت، أو بأن يقضي حياته في السجن على الأقل، عرّض نفسه لنظرها، حتى صار جالساً في مواجهتها. لكن، على الرغم من ذلك القرب، لا تكاد تلقي إلى وجوده، الفيزيائي، بالاً.


وها هي في مشاهد أخرى تجري حواراً مع موريل، الذي تحمل الرواية إسمه، والذي نظنّه واحداً من الشخصيات الثانوية في الرواية. ثمّ هناك آخرون قدموا إلى الجزيرة ووقعوا في مجال بصر ذلك المتخّفي الهارب، بل إنّه وقع في مجال بصرهم على الأرجح، إذ لا بدّ أنّهم انتبهوا لوجوده، أو سمعوا لهاثه فيما هو يتنقّل في اختبائه غير بعيد منهم.


يخيّل إلينا، منذ أن يتحوّل موريل من شخصية ثانوية إلى شخصية رئيسية، أنّ أولئك الوافدين إلى الجزيرة، وبينهم موريل وفوستين وآخرون، لم يكن وجودهم حقيقياً. فما كان يشاهده الهارب هو صورهم المخلَّدة التي حفظها اختراع موريل عارضاً الصور التي تمثّلهم وكأنّها أصحابها أنفسهم، بلحمهم ودمهم. وستظلّ هذه الصور الناقلة للوجود الحيّ تتكرّر مرّة بعد مرّة، حاملة كامل وجود من "تعرضهم". ذاك أن اختراع موريل تجاوز ما تفعله الكاميرات المعروفة بنقلها صور الأشخاص أو رسومهم، إذ تمكّن ذاك الاختراع من حفظهم مزوّدين بحواسهم الكاملة، من شمّ وسمع وقدرة على الرؤية والتمييز باللمس. وهذا، في اعتقاد موريل، ناقل للروح أيضا حيث "بجمع الأحاسيس كلّها تولد الروح". فإن كانت إحدى النساء، ولنقل إن اسمها مادلين، "متاحة للسمع، متاحة للذوق، متاحة للرؤية، متاحة للمس.."، ستكون عند ذاك مادلين بالفعل.


لا تنتهي رواية أدولفو كاساريس عند حدّ الوهّم الأقصى ذاك، إذ أنّها تجعله بداية لتوهم آخر، أو توهّمات لا تنتهي حول معنى الحياة والموت. إنّها متاهة محكمة من صنيع العقل المجرّد والتخيّل الأقصى.

 

  • "إختراع موريل" رواية أدولفو بيوي كاساريس نقلها عن الإسبانية أحمد يماني لـ"دار الجمل" في 112 صفحة، 2014.
increase حجم الخط decrease