الإثنين 2014/04/21

آخر تحديث: 03:14 (بيروت)

العزلة والتواصل "الإجتماعي"

الإثنين 2014/04/21
increase حجم الخط decrease
  في العالم كله تقريباً تراخت الوشائج بين البشر؛ الشق المتقدم، الغربي عموماً، من هذا العالم، كان سباقاً في ضرب هذه الوشائج. نمط إنتاج وعلاقات تبدلت تدريجياً منذ الثورة الحداثية وأفضت الى هذا التذرّر الفردي الذي يلمسه أي أمرىء على تماس ثقافي أو جغرافي مع هذا الجزء من البشرية. أما الشق المتأخر من هذا العالم، ومنه نحن، فقد احتفظ بدرجات من هذه الوشائج، بحسب وتيرة لحاقه بنظيره الغربي. لكن أمرين عجّلا في ضرب هذه الوشائج من دون قصد اللحاق بالضرورة بالغرب: أولهما الإضطرابات السياسية والإقتصادية، والثاني هو الهجرات الداخلية والخارجية التي لازمتها، تارة كنتيجة مباشرة لها، أو كواحدة من آثارها الجانبية وآثار الزمن المعاصر نفسه؛ ومن أهم تلك الآثار على الإطلاق، تحول الوقت إلى مادة نادرة في الحياة اليومية. الوقت تسارع، انضغط، تبخر، وصار شحه واضحاً؛ وإن لم يصل إلى مستوى القحط الذي بلغه الشق الغربي المتقدم من البشرية، مخترع فكرة "إن الوقت من ذهب"، أو مسوقها الدؤوب، على الأقل. ولكن النتيجة كانت قاسية على محبي الإجتماع في ديارنا: فما أرغموا عليه قسراً من هرب وهجرة واضطرابات، ومن تسارع الوقت، لم  يبقِ لا العائلات ولا الأحياء ولا الجيران ولا زملاء مهنة ولا أي نسيج إجتماعي آخر على حاله: كل واحد من هذا "الكيانات" توزع على بقع الأرض وتناثر، فبقيت قطع من هذا أو ذاك، غير مستقرة، غير مطمئنة، تنازع من أجل البقاء، ليست في وارد شيء إلا إنقاذ نفسها من الهدير الذي يهزّ الأرض تحت رجليها ... هكذا، حلّت العزلة، أو الوحدة على أفرادها؛ ومع ذلك ما زالت عزلة محمولة، تتغذى من فتات زمنها الماضي، حيث كان الدفء والونْس راسياً في أعماق قلبها. 
ثم جاء ما سميناه، تفاؤلاً، "شبكات التواصل الاجتماعي"، والفايسبوك مثلاً. الذين اخترعوا هذه الشبكات في الغرب المتقدم كان حافزهم ما بلغ أفراد مجتمعاتهم من شعور قوي بالعزلة. كما بشّر إريك شميت، المدير التنفيذي في "غوغل"، بأن "العزلة صارت أمراً من الماضي البعيد". أما نحن، أمام القليل من العزلة التي كنا بدأنا نعاني منها، القليل هنا مقارنة بتلك التي يعيشها الإنسان المتقدم... هجمنا على الفايسبوك مثل الفاتحين، وكوّنا صداقات... بل شفطنا الفايسبوك، بعدما كان التلفزيون سرق ساعات من أيامنا، ثم حلّت الوشائج الإفتراضية، لتبني الصداقة والغرام والزواج والتعارف من أجل مغامرة... أي كل ما يمسّ حياتنا اليومية وغير اليومية، صار لنا في الشبكة إجابة عليه، تلبية لحاجتنا. ولكن مع ذلك، تصاعد شعورنا بالعزلة، بانعدام القدرة على التواصل الإنساني؛ لا القدرة، ولا الوقت خصوصاً. وبدأ يشيع بيننا، بصراحة، ضيق من العزلة، من الوحدة، نعبر عنها بالكلمات، والأفصح منها، بالتشنجات العاطفية-السياسية، بنوع من الضجر تنضح منها جدران الفايسبوك... وأين؟ في المكان الافتراضي الأكثر إغراء للتسلية، الواعد بكسر العزلة... ولكن انظر إلى الوقت الذي يخصصه كل الهاربين من شيء من العزلة إلى حرارة الجماعة الافتراضية. أنظر إلى لهفتهم المحمومة على "اللايك"، على "تواصلهم" المباشر، غير المنقطع مع الأصدقاء؛ أنظر إلى "الكومنْت"، التعليق، إلى التعليق على التعليق، إلى الوقت الإضافي الذي يأخذه في الحياتين، الإفتراضية والواقعية، ليعزّز "لايكاته"، ليغذيها، ليتباهي أمام نظرائه بالأعداد القياسية منها. أنظر قليلاً إلى كل هذا وسوف تفهم لماذا يشعر بالعزلة على الرغم من مئات أو آلاف الأصدقاء: هو ذهب الى التواصل الافتراضي لأنه يشعر بالعزلة ويحتاج إلى أصدقاء. لكن التواصل الاجتماعي الافتراضي يعزله، إذ يرغمه على ان يكون وحيدا خلف شاشته. ولساعات غير معدودة. فينقّ على وحدته، على موت حياته الاجتماعية، وحواسه المادية، ليعود فيغرق في لايكاته وكومنتاته.... هكذا دواليك، حتى يطرح عليك السؤال: من كان الأول في الوجود، من ولد قبل؟ العزلة أم مواقع "التواصل الإجتماعي"؟    
 
increase حجم الخط decrease