الخميس 2014/04/17

آخر تحديث: 02:24 (بيروت)

تلك الطاولة للتفرّج وقضاء الوقت

الخميس 2014/04/17
تلك الطاولة للتفرّج وقضاء الوقت
الناقد الراحل نزيه خاطر
increase حجم الخط decrease
لم ننتبه لغياب نزيه خاطر عن شارع الحمرا. تلك النظرة السريعة الفضولية التي كنا نلقيها على الجالسين في المقهى غاب عنها أن تتذكّر وجوده هنا، على واحدة من الطاولات الصغيرة، جالسا بمفرده في أغلب الأحيان. كان الرواد قد تغيّروا، وهو أخلى مقعده وطاولته لواحد منهم. وهذا ما كان قد فعله مرّات كثيرة ناظرا إلى المدينة من زواياها الكثيرة، ومن تواريخها الكثيرة أيضا، إبتداء من خمسينات القرن الماضي حين أنذرته "ثورتها" الصغيرة آنذاك بأنّ ما أحبّه منها لن يبقى على حاله أبدا.

كما أن غيابه عن المقهى الأخير سبقه غيابه عن الكتابة في الصحيفة التي عمل فيها إبتداء من سنة 1964. قبل أن يداهمه المرض، ويقعده، لا أعرف ماذا كان يفعل بالوقت الذي أمسى خاليا من كلّ ما عليه أن يفعله. ذاك أنّ من المعلوم أنّ الكتابة الصحافية ليست مهنة فقط، بل هي تضمّ إليها ما يسمّيه الآخرون أوقات فراغهم. من ذلك مثلا أن يكون المقهى بابا مفتوحا لدخول الراغبين في السؤال والنصيحة، والتعرّف أيضا. وهو، نزيه خاطر، كان يستدعيهم للجلوس معه، عارضا النصح وتقديم الفائدة، كأن يستوقف كاتبا ويطلب منه نسخة من كتابه الأخير، لأنّ أحدا سأله عنه بعد أن عجز عن الحصول عليه.

وهذا اهتمام سيتغيّر تلقّيه مع ابتعاد نزيه خاطر عن ميدانه. من ذلك مثلا أن يكتفي المارّ من هؤلاء من أمام "كوستا" بإلقاء تحية متعجّلة، رافعا لها يده، لكن مستمرّا في سرعة خطوه ذاتها. لا أعرف أيضا إن كان نزيه خاطر قد قرّر، شأن كثيرين من العاملين بالكتابة، أن الوقت الذي تركه التوقّف عن العمل كثيرا، ينبغي أن يستفاد منه لكتابة عمل كبير. لم يفعل ذلك، ولا أعرف حتى إن كانت قد أقنعته رغبة القريبين إليه، أن يصنع شيئا من التراث الهائل الذي تركه متابعا فيه تواريخ فنون كثيرة طالما أنّه عايشها  لما يقرب من ستين عاما. لم يشأ أن يجمع مقالاته في كتاب، وإلا لكان فعل. بعض من رثوه في اليوم الذي أعقب رحيله، ذكروا كيف أنّه آثر أن يظلّ متصلا بما يجري حوله، ملامسا إيّاه حيا وجديدا.  وهذا إختيار أيضا، ليس لطريقة العمل بل لطريقة الحياة أيضا.

لقد وضع تعريفا لما يجب أن يفعله، منذ بداية عمله، منسجما مع ما قاله الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي وصف توزّعه بين طموحين، أو قمرين، قائلا إن مجدهما في افتراقهما. لكن ليس ضيّقا العالم الذي كان نزيه خاطر متّصلا به  وفاعلا فيه. فقد عمل في تاسيس محترفات ومسارح وصفحات ثقافية كانت أولاها في جريدة "لو سوار" الصادرة آنذاك باللغة الفرنسية. ثمّ أنّني أتخيّله هناك في كواليس المسارح، وفي محترفات الفنانين وليس فقط في معارضهم.

في بيروت، التي رآها مرّة "مختبر الفكر والثقافة العربية"، أتيح له، على مدى سنوات عمره الأخيرة، أن يختبر بأيّ عسر "تستولد ذاتها"، وكيف أنها تنجب، في عهودها المتقلّبة الكثيرة، ما لم نكن نحبّ أن ننتظره. أحسب أن نزيه خاطر أعطي وقتا كثيرا كي يتأمّل في ذلك.


(*) توفي أمس الناقد اللبناني والصحافي الزميل، نزيه خاطر، عن 84 عاماً. اعتبر ناقداً شاملاً وبارزاً طوال نصف قرن، كتب في النقد التشكيلي والمسرحي والأدبي.
بدأ الكتابة بالفرنسية، وأسس أول صفحة ثقافية أسبوعية بالفرنسية في بيروت، في جريدة "لو سوار" أواخر الخمسينات، لكنّ الجريدة توقفت عن الصدور بسبب أحداث العام 1958، ثم عمل أيام جورج نقاش. في العام 1964، دعاه الشاعر الراحل أنسي الحاج إلى الكتابة في جريدة "النهار" فواظب على الكتابة النقدية فيها لعقود. قدم خاطر برنامج "بيروت والثقافة" بالفرنسية في الإذاعة اللبنانية، بداية الستينات، وبرنامج "ثقافة وناس" في تلفزيون لبنان، أواسط الثمانينات. نال الدكتوراه في المسرح من جامعة السوربون برسالة عنوانها "المسرح اللبناني بين ثورتي 1958-1975".

increase حجم الخط decrease